(
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم )
قوله تعالى : (
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم )
[ ص: 125 ] لما بين حال من إذا تتلى عليه الآيات ولى ، بين حال من يقبل على تلك الآيات ويقبلها ، وكما أن ذلك له مراتب من التولية والاستكبار ، فهذا له مراتب من الإقبال والقبول والعمل به ، فإن
من سمع شيئا وقبله قد لا يعمل به فلا تكون درجته مثل من يسمع ويطيع ، ثم إن هذا له جنات النعيم ، ولذلك عذاب مهين ، وفيه لطائف :
إحداها : توحيد العذاب وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة واسعة أكثر من الغضب .
الثانية : تنكير العذاب وتعريف الجنة بالإضافة إلى المعرف إشارة إلى أن
الرحيم يبين النعمة ويعرفها إيصالا للراحة إلى القلب ، ولا يبين النقمة ، وإنما ينبه عليها تنبيها .
الثالثة : قال عذاب ، ولم يصرح بأنهم فيه خالدون ، وإنما أشار إلى الخلود بقوله : (
مهين ) وصرح في الثواب بالخلود بقوله : (
خالدين فيها ) .
الرابعة : أكد ذلك بقوله : (
وعد الله حقا ) ولم يذكره هناك .
الخامسة : قال هناك لغيره : (
فبشره بعذاب ) وقال هاهنا بنفسه (
وعد الله ) ، ثم لم يقل أبشركم به ; لأن البشارة لا تكون إلا بأعظم ما يكون ، لكن الجنة دون ما يكون للصالحين بشارة من الله ، وإنما تكون بشارتهم منه برحمته ورضوانه كما قال تعالى : (
يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) ولولا قوله : ( منه ) لما عظمت البشارة ، ولو كانت ( منه ) مقرونة بأمر دون الجنة لكان ذلك فوق الجنة من غير إضافة ، فإن قيل فقد بشر بنفس الجنة بقوله : (
وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) [ فصلت : 30 ] نقول : البشارة هناك لم تكن بالجنة وحدها ، بل بها وبما ذكر بعدها إلى قوله تعالى : (
نزلا من غفور رحيم ) [ فصلت: 32 ] والنزل ما يهيأ عند النزول والإكرام العظيم بعده وهو (
العزيز الحكيم ) كامل القدرة يعذب المعرض ويثيب المقبل ، كامل العلم يفعل الأفعال كما ينبغي ، فلا يعذب من يؤمن ولا يثيب من يكفر .
ثم قال تعالى : (
خلق السماوات بغير عمد ترونها )
بين عزته وحكمته بقوله : (
خلق السماوات بغير عمد ) اختلف
قول العلماء في السماوات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية ، وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة ، وهو قول جميع المهندسين ،
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي رحمه الله قال : نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلا من المحسوسات ، ومخالفة الحس لا تجوز ، وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله ، فضلا من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحا ، بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى : (
كل في فلك يسبحون ) [ الأنبياء : 33 ] والفلك اسم لشيء مستدير ، بل الواجب أن يقال بأن السماوات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة الله لا موجودة بإيجاب وطبع ، وإذا علم هذا فنقول : السماء في مكان وهو فضاء ، والفضاء لا نهاية له ، وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة ، وإليه الإشارة بقوله : (
بغير عمد ) أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها ، وهي لا تزول إلا بقدرة الله تعالى ، وقال بعضهم : المعنى أن السماوات بأسرها ومجموعها لا مكان لها ; لأن المكان ما يعتمد عليه ما فيه فيكون متمكنا ، والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال هاهنا وهناك ، على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز ، إذ يقال له هو هاهنا وهناك ، وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء ، فإذا حصل على الأرض حصل في مكان ، إذا علم هذا فالسماوات ليس في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها ، وقوله : (
ترونها ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه راجع إلى السماوات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد .
والثاني : أنه راجع إلى العمد ، أي بغير عمد مرئية ، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته .
[ ص: 126 ] ثم قال تعالى : (
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ) .
أي جبالا راسية ثابتة (
أن تميد ) أي كراهية أن تميد ، وقيل : المعنى أن لا تميد ، واعلم أن
الأرض ثباتها بسبب ثقلها ، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح ، ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع ، ثم قال تعالى : (
وبث فيها من كل دابة ) أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب ، فأسكنا الأرض وحركنا الدواب ، ولو كانت الأرض متزلزلة , وبعض الأراضي يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة التي لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع ، فيكون فيه هلاك الدواب ، أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها ، ثم قال تعالى : (
وأنزلنا من السماء ماء ) هذه نعمة أخرى أنعمها الله على عباده ، وتمامها بسكون الأرض ; لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ، ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات ، والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة ، أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد ، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا ، وقال خالد كذا وكذا ، وقال عمرو كذا ، ثم إن بكرا قال قولا حسنا يستطاب لما قد تكرر القول مرارا . وأما الحكمة فمن وجهين :
أحدهما : أن خلق الأرض ثقيل ، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع ، وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة ; لأن لها اختيارا ، فنقول : الأول طبيعي ، والآخر اختياري للحيوان ، ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعا فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختيارا ، إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة الله تعالى ، فقال : (
وأنزلنا من السماء ) .
الثاني : هو أن
إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان ، متكثرة في كل مكان ، فأسنده إلى نفسه صريحا ليتنبه الإنسان لشكر نعمته ، فيزيد له من رحمته ، وقوله تعالى : (
فأنبتنا فيها من كل زوج ) أي من كل جنس ، وكل جنس فتحته زوجان ; لأن النبات إما أن يكون شجرا ، وإما أن يكون غير شجر ، والذي هو الشجر إما أن يكون مثمرا ، وإما أن يكون غير مثمر ، والمثمر كذلك ينقسم ، وقوله تعالى : (
كريم ) [ لقمان : 10] أي ذي كرم ; لأنه يأتي كثيرا من غير حساب أو مكرم , مثل بغيض للمبغض .