(
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )
ثم قال تعالى : (
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين )
قوله تعالى : (
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) يعني :
الله خالق وغيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق .
ثم قال تعالى : (
بل الظالمون في ضلال مبين ) أي بين أو مبين للعاقل أنه ضلال ، وهذا لأن ترك
[ ص: 127 ] الطريق والحيد عنه ضلال ، ثم إن كان الحيد يمنة أو يسرة فهو لا يبعد عن الطريق المستقيم , مثل ما يكون المقصد إلى وراء فإنه يكون غاية الضلال ،
فالمقصد هو الله تعالى ، فمن يطلبه ويلتفت إلى غيره من الدنيا وغيرها فهو ضال ، لكن من وجهه إلى الله قد يصل إلى المقصود ، ولكن بعد تعب وطول مدة ، ومن يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكن كالذي على الطريق المستقيم يصل عن قريب من غير تعب .
وأما الذي تولى لا يصل إلى المقصود أصلا ، وإن دام في السفر ، والمراد بالظالمين المشركون الواضعون لعبادتهم في غير موضعها ، أو الواضعون أنفسهم في عبادة غير الله .
ثم قال تعالى : (
ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )
قوله تعالى : (
ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ) لما بين الله فساد اعتقادهم بسبب عنادهم بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شيء بقوله : (
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) وبين أن
المشرك ظالم ضال ، ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة وإن لم يكن هناك نبوة وهذا إشارة إلى معنى ، وهو أن
اتباع النبي - عليه السلام - لازم فيما لا يعقل معناه إظهارا للتعبد ، فكيف ما لا يختص بالنبوة ، بل يدرك بالعقل معناه وما جاء به النبي - عليه السلام - مدرك بالحكمة ، وذكر حكاية
لقمان وأنه أدركه بالحكمة ، وقوله : (
ولقد آتينا لقمان الحكمة ) عبارة عن توفيق العمل بالعلم ، فكل
من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة ، وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة الله تعالى ، فنقول : حصول العمل على وفق المعلوم ، والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا ، ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ، ووقع على موضع فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال إنه حكيم ، وإن ظهر لفعله مصلحة وخلو عن مفسدة ، لعدم علمه به أولا ، ومن يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس ويلقي نفسه من ذلك المكان وتنكسر أعضاؤه لا يقال إنه حكيم ، وإن علم ما يكون في فعله ، ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : (
أن اشكر لله ) فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ، ففسر الله إيتاء الحكمة بقوله : (
أن اشكر لله ) وهو كذلك ; لأن من جملة ما يقال : إن
العمل موافق للعلم ; لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر ، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة ، وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء ، لكن شكر الله أهم الأشياء ، فالحكمة أول ما تقتضي ، ثم إن الله تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله : (
ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ) وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله : (
ومن كفر فإن الله غني حميد ) أي
الله غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر ، وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه ، وفي الآية مسائل ولطائف .
الأولى : فسر الله إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر ، لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر ، فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة . والجواب : أن قوله تعالى : (
أن اشكر لله ) أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين ، وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف .
المسألة الثانية : قال في الشكر ومن يشكر بصيغة المستقبل ، وفي الكفران ومن كفر فإن الله غني ، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد ، كقول القائل : من دخل داري فهو حر ، ومن يدخل داري فهو حر ، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر ، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر
[ ص: 128 ] النعمة ، فمن شكر ينبغي أن يكرر ، والكفر ينبغي أن ينقطع ، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران ، ولأن
الشكر من الشاكر لا يقع بكماله ، بل أبدا يكون منه شيء في العدم ، يريد الشاكر إدخاله في الوجود ، كما قال : (
رب أوزعني أن أشكر نعمتك ) [ النمل : 19 ] وكما قال تعالى : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] فأشار إليه بصيغة المستقبل ، تنبيها على أن الشكر بكماله لم يوجد . وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام ، فقال بصيغة الماضي .
المسألة الثالثة : قال تعالى هنا : (
ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر ) بتقديم الشكر على الكفران ، وقال في سورة الروم : (
من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ) فنقول : هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل : (
فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون ) [ الروم : 43 ] وهاهنا الذكر للترغيب ; لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد ، وقوله : (
ومن عمل صالحا ) يحقق ما ذكرنا أولا ; لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي : (
ومن عمل ) ، وهاهنا لما كان المذكور في الابتداء قال : (
ومن يشكر ) بلفظ المستقبل ، وقوله : (
ومن كفر فإن الله غني ) عن حمد الحامدين ، حميد في ذاته من غير حمدهم ، وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامدا لله تعالى .