[ ص: 133 ] (
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )
ثم قال تعالى : (
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )
لما استدل بقوله تعالى : (
خلق السماوات بغير عمد ) [ لقمان : 10 ] على الوحدانية ، وبين بحكاية
لقمان أن معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة ، وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة ، ولو كان تعبدا محضا للزم قبوله ، فضلا عن أنه على وفق الحكمة ، استدل على الوحدانية بالنعمة ، لأنا بينا مرارا أن الملك يخدم لعظمته وإن لم ينعم ، ويخدم لنعمته أيضا ، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السماوات بلا عمد ، وإلقائه في الأرض الرواسي ، وذكر بعض النعم بقوله : (
وأنزلنا من السماء ماء ) [ المؤمنون : 18 ] ذكر بعده عامة النعم فقال : (
سخر لكم ما في السماوات ) أي سخر لأجلكم ما في السماوات ، فإن
الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله ، وفيها فوائد لعباده ، وسخر ما في الأرض لأجل عباده ، وقوله : (
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة ) وهي ما في الأعضاء من السلامة (
وباطنة ) وهي ما في القوى ، فإن العضو ظاهر ، وفيه قوة باطنة ، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر ، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر ، وفي كل واحد معنى باطن من الإبصار والسمع والذوق والشم ، وكذلك كل عضو ، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائما ، وهذا أحسن مما قيل ، فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس ، فقوله : (
ما في السماوات وما في الأرض ) يكون إشارة إلى النعم الآفاقية ، وقوله : (
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) يكون إشارة إلى النعم الأنفسية ، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير ، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولا منقولا ، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغا معقولا .
ثم قال تعالى : (
ومن الناس من يجادل في الله ) يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام
فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره ، إما إلها أو منعما ، (
بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) هذه أمور ثلاثة : مرتبة العلم ، والهدى ، والكتاب . والعلم أعلى من الهدى ، والهدى من الكتاب ، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد ، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب ، والذي يكون من إلهام ووحي ، فقال تعالى : (
يجادل ) ذلك المجادل لا من علم واضح ، ولا من هدى أتاه من هاد ، ولا من كتاب ، وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علما كما قال تعالى : (
وعلمك ما لم تكن تعلم ) [ النساء : 113 ] .
والثاني : إشارة إلى مرتبة من هدي إلى صراط مستقيم بواسطة ، كما قال تعالى : (
علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] . والثالث : إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ، ولهذا قال تعالى : (
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) [ البقرة :1 - 2 ] وقال في هذه السورة : (
هدى ورحمة للمحسنين ) [ لقمان : 3 ] وقال في السجدة : (
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ) [ الإسراء : 2 ] فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام ،
والنبي هداه من الله تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين ، فقال تعالى : يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفا ، ولا بهدى أرسلناه إليه وحيا ، ولا بكتاب يتلى عليه وعظا .
ثم فيه لطيفة أخرى ، وهو أنه
[ ص: 134 ] تعالى قال في الكتاب : (
ولا كتاب منير ) ؛ لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف ، فلو قال : ولا كتاب لكان لقائل أن يقول : لا يجادل من غير كتاب ، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ; ولأن
المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم ، فقال : (
ولا كتاب منير ) فإن ذلك الكتاب مظلم ، ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك .