[ ص: 136 ] (
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد )
ثم قال تعالى : (
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )
الآية متعلقة بما قبلها من وجهين :
أحدهما : أنه تعالى لما استدل بخلق السماوات بغير عمد وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له ، وهذا يقتضي أن يكون الحمد كله لله ; لأن خالق السماوات والأرض يحتاج إليه كل ما في السماوات والأرض ،
وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره ، لكنهم لا يعلمون هذا .
والثاني : أن الله تعالى لما سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (
فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم ) أي لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب عند رجوعهم إلينا ، قال : وليس لا يتبين إلا ذلك اليوم بل هو يتبين قبل يوم القيامة لأنهم معترفون بأن خلق السماوات والأرض من الله ، وهذا يصدقك في دعوى الوحدانية ويبين كذبهم في الإشراك (
فقل الحمد لله ) على ظهور صدقك وكذب مكذبيك (
بل أكثرهم لا يعلمون ) أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك .
وعلى هذا يكون لا يعلمون استعمالا للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية ، كما يقول القائل : فلان يعطي ويمنع ولا يكون في ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاء ومنعا ، فكذلك ههنا قال : (
لا يعلمون ) أي ليس لهم علم وعلى الأول يكون لا يعلمون له مفعول مفهوم ، وهو أنهم لا يعلمون أن الحمد كله لله ، والثاني أبلغ لأن قول القائل : فلان لا علم له بكذا ، دون قوله : فلان لا علم له ، وكذا قوله فلان لا ينفع زيدا ولا يضره ، دون قوله : فلان لا يضر ولا ينفع .
ثم قال تعالى : (
لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد )
ذكر بما يلزم منه ، وهو أنه يكون له ما فيهما ، والأمر كذلك عقلا وشرعا . أما عقلا فلأن
ما في السماوات المخلوقة مخلوق ، وإضافة خلقه إلى من منه خلق السماوات والأرض لازم عقلا لأنها ممكنة ، والممكن لا يقع ولا يوجد إلا بواجب من غير واسطة كما هو مذهب أهل السنة ، أو بواسطة كما يقوله غيرهم ، وكيفما فرض فكله من الله ، لأن سبب السبب سبب .
وأما شرعا فلأن من يملك أرضا وحصل منها شيء ما ، يكون ذلك لمالك الأرض ، فكذلك كل ما في السماوات والأرض حاصل فيهما ومنهما ، فهو لمالك السماوات والأرض ، وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله لله .
ثم قوله تعالى : (
إن الله هو الغني الحميد ) فيه معان لطيفة أحدها : أن
الكل لله وهو غير محتاج إليه ، غير منتفع به ، وفيها منافع ، فهي لكم خلقها ، فهو غني لعدم حاجته ، حميد مشكور لدفعه حوائجكم بها .
وثانيها : أن بعد ذكر الدلائل على أن الحمد كله لله ، ولا تصلح العبادة إلا لله افترق المكلفون فريقين مؤمن وكافر ، والكافر لم يحمد الله والمؤمن حمده ، فقال : إنه غني عن حمد الحامدين فلا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين ، وحميد في نفسه ، فيتبين به إصابة المؤمنين ، وتكمل بحمده الحامدون .
وثالثها : هو أن السماوات وما فيها ، والأرض وما فيها ، إذا كانت لله ومخلوقة له ، فالكل محتاجون ، فلا غني إلا الله ، فهو الغني المطلق ، وكل محتاج ، فهو حامد لاحتياجه إلى من يدفع حاجته ، فلا يكون الحميد المطلق إلا الغني
[ ص: 137 ] المطلق فهو الحميد ، وعلى هذا [ يكون ] الحميد بمعنى المحمود ، والله إذا قيل له الحميد لا يكون معناه إلا الواصف ، أي وصف نفسه أو عباده بأوصاف حميدة ، والعبد إذا قيل له حامد يحتمل ذلك المعنى ، ويحتمل كونه عابدا شاكرا له .