(
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون )
ثم قال تعالى : (
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون )
[ ص: 159 ] لما بين حال المجرم والمؤمن قال للعاقل : هل يستوي الفريقان ، ثم بين أنهما لا يستويان ، ثم بين عدم الاستواء على سبيل التفصيل ، فقال : (
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى ) إشارة إلى ما ذكرنا أن الله أحسن ابتداء لا لعوض ، فلما آمن العبد وعمل صالحا قبله منه كأنه ابتداء ، فجازاه بأن أعطاه الجنة ، ثم قال تعالى : (
نزلا ) إشارة إلى أن بعدها أشياء ، لأن النزل ما يعطي الملك النازل وقت نزوله قبل أن يجعل له راتبا أو يكتب له خبزا ، وقوله : (
بما كانوا يعملون ) يحقق ما ذكرنا .
وقوله تعالى : (
وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها ) إشارة إلى
حال الكافر ، وقد ذكرنا مرارا أن
العمل الصالح له مع الإيمان أثر ، أما الكفر إذا جاء فلا التفات إلى الأعمال ، فلم يقل : وأما الذين فسقوا وعملوا السيئات لأن المراد من (
فسقوا ) كفروا ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل ، لظن أن مجرد الكفر لا عقاب عليه .
وقوله في حق المؤمنين : ( لهم) بلام التمليك زيادة إكرام ؛ لأن من قال لغيره : اسكن هذه الدار يكون ذلك محمولا على العارية ، وله استرداده ، وإذا قال : هذه الدار لك ، يكون ذلك محمولا على نسبة الملكية إليه وليس له استرداده بحكم قوله . وكذلك في قوله : ( لهم جنات ) ألا ترى أنه تعالى لما أسكن
آدم الجنة وكان في علمه أنه يخرجه منها قال : (
اسكن أنت وزوجك الجنة ) [ البقرة : 35 ] ولم يقل : لكما الجنة . وفي الآخرة لما لم يكن للمؤمنين خروج عنها قال : ( لكم الجنة ) و( لهم جنات ) وقوله : (
كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا ) إشارة إلى معنى حكمي ، وهو أن المؤلم إذا تمكن والألم إذا امتد لم يبق به شعور تام ; ولهذا قال الأطباء : إن حرارة حمى الدق بالنسبة إلى حرارة الحمى البلغمية نسبة النار إلى الماء المسخن ، ثم إن المدقوق لا يحس من الحرارة بما يحس به من به الحمى البلغمية لتمكن الدق وقرب العهد بظهور حرارة الحمى البلغمية ، وكذلك الإنسان إذا وضع يده في ماء بارد يتألم من البرد ، فإذا صبر زمانا طويلا تثلج يده ويبطل عنه ذلك الألم الشديد مع فساد مزاجه .
إذا علمت هذا فقوله : (
كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) إشارة إلى أن الإله لا يسكن عنهم بل يرد عليهم في كل حال أمر مؤلم يجدد ، وقوله : (
ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) يقرر ما ذكرنا ، ومعناه أنهم في الدنيا كانوا يكذبون بعذاب النار ، فلما ذاقوه كان أشد إيلاما ; لأن من لا يتوقع شيئا فيصيبه يكون أشد تأثيرا ، ثم إنهم في الآخرة كما في الدنيا يجزمون أن لا عذاب إلا وقد وصل إليهم ولا يتوقعون شيئا آخر من العذاب ، فيرد عليهم عذاب أشد من الأول ، وكانوا يكذبون به بقولهم لا عذاب فوق ما نحن فيه ، فإذن معنى قوله تعالى : (
ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) ليس مقتصرا على تكذيبهم الذي كان في الدنيا بل (
كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) وقيل لهم : ذوقوا عذابا كذبتم به من قبل . أما في الدنيا بقولكم : لا عذاب في الآخرة ، وأما في الآخرة فبقولكم : لا عذاب فوق ما نحن فيه .