(
أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ) .
ثم قال تعالى : (
أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ) .
قيل : إن "أن" ههنا للتفسير فهي مفسرة ، بمعنى أي اعمل سابغات وهو تفسير (
وألنا ) وتحقيقه لأن يعمل ، يعني ألنا له الحديد ليعمل سابغات ، ويمكن أن يقال : ألهمناه أن اعمل ، وأن مع الفعل المستقبل للمصدر فيكون معناه :
ألنا له الحديد وألهمناه عمل سابغات وهي الدروع الواسعة : ذكر الصفة ويعلم منها الموصوف (
وقدر في السرد ) ، قال المفسرون : أي لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير فيها ، ويحتمل أن يقال السرد هو عمل الزرد ، وقوله : (
وقدر في السرد ) أي الزرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ، ويدل عليه قوله تعالى : (
واعملوا صالحا ) أي
لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ، والكسب قدروا فيه ، ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : (
إني بما تعملون بصير ) وقد ذكرنا مرارا أن من يعمل لملك شغلا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه ، ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيبا آخر وهو
سليمان ، كما قال تعالى : (
وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) [ ص : 34 ] .
وذكر ما استفاد هو بالإنابة فقال : (
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ " ولسليمان الريح " بالرفع وبالنصب ، وجه الرفع " ولسليمان الريح " مسخرة أو سخرت " لسليمان الريح " ووجه النصب " ولسليمان " سخرنا " الريح " وللرفع وجه آخر وهو أن يقال : معناه : " ولسليمان الريح " كما يقال لزيد الدار ، وذلك لأن الريح كانت له كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد .
المسألة الثانية : الواو للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفا لجملة اسمية على جملة فعلية وهو لا يجوز أو لا يحسن فكيف هذا ؟ فنقول لما بين حال
داود كأنه تعالى قال ما ذكرنا
لداود ولسليمان الريح ، وأما على
[ ص: 214 ] النصب فعلى قولنا : (
وألنا له الحديد ) كأنه قال : وألنا
لداود الحديد وسخرنا
لسليمان الريح .
المسألة الثالثة : المسخر
لسليمان كانت ريحا مخصوصة لا هذه الرياح ، فإنها المنافع عامة في أوقات الحاجات ويدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد فما قرأ أحد : الرياح .
المسألة الرابعة : قال بعض الناس : المراد من
تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء (
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] ، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح ، ومن تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح وقوله : (
غدوها شهر ) ثلاثون فرسخا لأن من يخرج للتفرج في أكثر الأمر لا يسير أكثر من فرسخ ويرجع كذلك ، وقوله في حق
داود : (
وألنا له الحديد ) وقوله في حق
سليمان : (
وأسلنا له عين القطر ) أنهم استخرجوا تذويب الحديد والنحاس بالنار واستعمال الآلات منهما ، والشياطين أي أناسا أقوياء وهذا كله فاسد حمله على هذا ضعف اعتقاده [ و ] عدم اعتماده على
قدرة الله والله قادر على كل ممكن وهذه أشياء ممكنة .
المسألة الخامسة : أقول : قوله تعالى : (
وسخرنا مع داود الجبال ) [ الأنبياء : 79 ] وقوله : (
ولسليمان الريح عاصفة ) لو قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى قال في الأنبياء : (
وسخرنا مع داود الجبال ) وفي هذه السورة قال : (
ياجبال أوبي معه ) وقال في الريح هناك وههنا : (
ولسليمان ) ؟ نقول الجبال لما سبحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى
داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب ، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة له وهذا حسن وفيه أمر آخر معقول يظهر لي وهو أن على قولنا : (
أوبي معه ) سيري فالجبل في السير ليس أصلا بل هو يتحرك معه تبعا ، والريح لا تتحرك مع
سليمان بل تحرك
سليمان مع نفسها ، فلم يقل : الريح مع
سليمان ، بل
سليمان كان مع الريح (
وأسلنا له عين القطر ) أي النحاس (
ومن الجن ) أي سخرنا له من الجن ، وهذا ينبئ عن أن جميعهم ما كانوا تحت أمره وهو الظاهر .
واعلم أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق
داود وثلاثة في حق
سليمان عليهما الصلاة والسلام فالجبال المسخرة
لداود من جنس
تسخير الريح لسليمان ، وذلك لأن الثقيل مع ما هو أخف منه إذا تحركا يسبق الخفيف الثقيل ويبقى الثقيل مكانه ، لكن الجبال كانت أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح فقدر الله أن سار الثقيل مع الخفيف أي الجبال مع
داود على ما قلنا : (
أوبي ) أي سيري ،
وسليمان وجنوده مع الريح ، الثقيل مع الخفيف أيضا ، والطير من جنس تسخير الجن لأنهما لا يجتمعان مع الإنسان : الطير لنفوره من الإنس ، والإنس لنفوره من الجن ، فإن الإنسان يتقي مواضع الجن ، والجن يطلب أبدا اصطياد الإنسان ، والإنسان يطلب اصطياد الطير ، فقدر الله أن صار
الطير لا ينفر من داود بل يستأنس به ويطلبه ،
وسليمان لا ينفر من الجن بل يسخره ويستخدمه ، وأما القطر والحديد فتجاذبهما غير خفي ( وههنا لطيفة ) : وهي أن
الآدمي ينبغي أن يتقي الجن ويجتنبه ، والاجتماع به يفضي إلى المفسدة ولهذا قال تعالى : (
أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) [ المؤمنون : 97 - 98 ] فكيف طلب
سليمان الاجتماع بهم ؟ فنقول : قوله تعالى : (
من يعمل بين يديه بإذن ربه ) إشارة إلى أن ذلك الحضور لم يكن فيه مفسدة ( ولطيفة أخرى ) وهي أن الله تعالى قال ههنا : (
بإذن ربه ) بلفظ الرب وقال : (
ومن يزغ منهم عن أمرنا ) ولم يقل عن أمر ربه ، وذلك لأن الرب لفظ ينبئ عن الرحمة ، فعندما كانت الإشارة إلى حفظ
سليمان عليه السلام قال : (
ربه ) وعندما كانت الإشارة إلى
[ ص: 215 ] تعذيبهم قال : (
عن أمرنا ) بلفظ التعظيم الموجب لزيادة الخوف ، وقوله تعالى : (
نذقه من عذاب السعير ) فيه وجهان :
أحدهما : أن الملائكة كانوا موكلين بهم وبأيديهم مقارع من نار فالإشارة إليه .
وثانيهما : أن السعير هو ما يكون في الآخرة فأوعدهم بما في الآخرة من العذاب .