(
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين )
ثم قال تعالى : (
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين )
وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان :
أحدهما : أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي ، وعلى هذا فقوله : (
من أقصى المدينة ) فيه بلاغة باهرة ، وذلك لأنه لما (
وجاء من أقصى المدينة رجل ) وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة .
وثانيهما : أن ضرب المثل لما كان
لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية لقلبه ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعي المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا ، ووصول الجزاء الأوفى إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب
محمد ، كما أن
ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : قوله : (
وجاء من أقصى المدينة رجل ) في تنكير الرجل مع أنه كان معروفا معلوما عند الله فائدتان :
الأولى : أن يكون تعظيما لشأنه أي رجل كامل في الرجولية .
الثانية : أن يكون مفيدا لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به ، فلا يقال : إنهم تواطئوا ، والرجل هو
حبيب النجار كان ينحت الأصنام وقد آمن
بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حيث صار من العلماء بكتاب الله ، ورأى فيه نعت
محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته .
المسألة الثانية : قوله : (
يسعى ) تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم ، وقد ذكرنا فائدة قوله : (
من أقصى المدينة ) وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في (
أقصى المدينة ) .
[ ص: 49 ] والمدينة هي
أنطاكية ، وهي كانت كبيرة شاسعة وهي الآن دون ذلك ، ومع هذا فهي كبيرة وقوله تعالى : (
قال ياقوم اتبعوا المرسلين ) فيه معان لطيفة :
الأول : في قوله : (
ياقوم ) فإنه ينبئ عن إشفاق عليهم وشفقة ، فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله : (
ياقوم ) يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيرا ، وهذا مثل قول مؤمن
آل فرعون : يا قوم اتبعوني فإن قيل : قال هذا الرجل : (
اتبعوا المرسلين ) وقال ذلك : اتبعوني ، فما الفرق ؟ نقول : هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته ، فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل ، وأوضحوا لكم السبيل ، وأما مؤمن
آل فرعون فكان فيهم واتبع
موسى ونصحهم مرارا ، فقال : اتبعوني في الإيمان
بموسى وهارون عليهما السلام ، واعلموا أنه لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي ، وأنتم تعلمون أني اخترته ، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول : أنتم تعلمون اتباعي لهم .
الثاني : جمع بين
إظهار النصيحة وإظهار إيمانه ، فقوله : (
اتبعوا ) نصيحة وقوله : (
المرسلين ) إظهار أنه آمن .
الثالث : قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان ؛ لأنه كان ساعيا في النصح ، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل ، وقوله : (
رجل يسعى ) يدل على كونه مريدا للنصح ، وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول : " اللهم اهد قومي " .