صفحة جزء
المسألة الثالثة : الفلك ماذا ؟ نقول الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة ؛ لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها ، وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة ، فإن قيل : فعلى هذا تكون السماء مستديرة . وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة ليس لها أطراف على جبال ، وهي كالسقف المستوي ، ويدل عليه قوله تعالى : ( والسقف المرفوع ) ( الطور : 5 ) نقول : ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة ، ودل الدليل الحسي على كونها مستديرة ، فوجب المصير إليه .

أما الأول فظاهر ؛ لأن السقف المقبب لا يخرج من كونه سقفا ، وكذلك كونها على جبال .

وأما الدليل الحسي فوجوه :

أحدها : إن من أمعن في السير في جانب الجنوب يظهر له كواكب مثل سهيل وغيره ظهورا أبديا حتى أن من يرصد يراه دائما ويخفى عليه بنات نعش وغيرها خفاء أبديا ، ولو كان السماء مسطحا مستويا لبان الكل للكل بخلاف ما إذا كان مستديرا ، فإن بعضه حينئذ يستتر بأطراف الأرض فلا يرى .

الثاني : هو أن الشمس إذا كانت مقارنة للحمل مثلا ، فإذا غربت ظهر لنا كوكب في منطقة البروج من الحمل إلى الميزان ، ثم في قليل يستتر الكوكب الذي كان غروبه بعد غروب الشمس ويظهر الكوكب الذي كان طلوعه بعد طلوع الشمس وبالعكس هو دليل ظاهر ، وإن بحث فيه يصير قطعيا .

الثالث : هو أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير الجو بعض الاستنارة ثم يطلع ، ولولا أن بعض السماء مستتر بالأرض وهو محل الشمس ، فلا يرى جرمها وينتشر نورها لما كان كذا ، بل كان عند إعادتها إلى السماء يظهر لكل أحد جرمها ونورها معا لكون السماء مستوية حينئذ مكشوفة كلها لكل أحد .

الرابع : القمر إذا انكسف في ساعة من الليل في جانب الشرق ، ثم سئل أهل الغرب عن وقت الكسوف أخبروا عن الخسوف في ساعة أخرى قبل تلك الساعة التي رأى أهل المشرق فيها الخسوف ، لكن الخسوف في وقت واحد في جميع نواحي العالم ، والليل مختلف ، فدل على أن الليل في جانب المشرق قبل الليل في جانب المغرب ، فالشمس غربت من عند أهل المشرق وهي بعد في السماء ظاهرة لأهل المغرب ، فعلم استتارها بالأرض ولو كانت مستوية لما كان كذلك .

الخامس : لو كانت السماء مبسوطة لكان القمر عندما يكون فوق رؤوسنا على المسامتة أقرب إلينا ، وعندما يكون على الأفق أبعد منا ؛ لأن العموم أصغر من القطر والوتد ، وكذلك في الشمس والكواكب كان يجب أن يرى أكبر ؛ لأن القريب يرى أكبر ، وليس كذلك .

فإن قيل : [ ص: 67 ] جاز أن يكون ، وهو على الأفق على سطح السماء ، وعندما يكون على مسامتة رؤوسنا في بحر السماء غائرا فيها ؛ لأن الخرق جائز على السماء ، نقول : لا تنازع في جواز الخرق ، لكن القمر حينئذ تكون حركته في دائرة لا على خط مستقيم ، وهو غرضنا ؛ ولأنا نقول : لو كان كذلك لكان القمر عند أهل المشرق ، وهو في منتصف نهارهم أكبر مقدارا لكونه قريبا من رؤوسهم ضرورة فرضه على سطح السماء الأدنى ، وعندنا في بحر السماء ، وبالجملة الدلائل كثيرة ، والإكثار منها يليق بكتب الهيئة التي الغرض منها بيان ذلك العلم ، وليس الغرض في التفسير بيان ذلك غير أن القدر الذي أوردناه يكفي في بيان كونه فلكا مستديرا .

المسألة الرابعة : هذا يدل على أن لكل كوكب فلكا ، فما قولك فيه ؟ نقول : أما السبعة السيارة فلكل فلك ، وأما الكواكب الأخر فقيل للكل : فلك واحد ، ولنذكر كلاما مختصرا في هذا الباب من الهيئة حيث وجب الشروع بسبب تفسير الفلك ، فنقول : قيل : إن للقمر فلكا ؛ لأن حركته أسرع من حركة الستة الباقية ، وكذلك لكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة والبطء والممر ، فإن بعضها يمر في دائرة وبعضها في دائرة أخرى حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض ولا يكسفه وفي بعض الأوقات يكسفه ، فلكل كوكب فلك ، ثم أهل الهيئة قالوا : فكل فلك هو جسم كرة ، وذلك غير لازم ، بل اللازم أن نقول : لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته ، والله تعالى قادر على أن يخلق الكوكب في كرة يكون وجوده فيها كوجود مسمار مغرق في ثخن كرة مجوفة ، ويدير الكرة فيدور الكوكب بدوران الكرة ، وعلى مذهب أرباب الهيئة حركة الكواكب السيارة على هذا الوجه ، وكذلك قادر على أن يخلق حلقة يحيط بها أربع سطوح متوازية بها فإنها أربع دوائر متوازية كحجر الرحى إذا قورناه وأخرجنا من وسطه طاحونة من طواحين اليد ، ويبقى منه حلقة يحيط بها سطوح ودوائر كما ذكرنا ، وتكون الكواكب فيه وهو فلك ، فتدور تلك الحلقة وتدير الكوكب ، والحركة على هذا الوجه وإن كانت مقدورة لكن لم يذهب إليه أحد ممن يعتبر ، وكذلك هو قادر على أن يجعل الكواكب بحيث تشق السماء ، فتجعل دائرة متوهمة ، كما لو فرضت سمكة في الماء على وجهين تنزل من جانب وتصعد إلى موضع من الجانب الآخر على استدارة ، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى : ( وكل في فلك يسبحون ) والظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه ، وأرباب الهيئة أنكروا ذلك ، وقالوا : لا تجوز الحركة على هذا الوجه ؛ لأن الكوكب له جرم ، فإذا شق السماء وتحرك ، فإما أن يكون موضع دورانه ينشق ويلتئم كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق ولا يلتئم ، بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه ، لكن الخلاء محال ، والسماء لا تقبل الشق والالتئام ، هذا ما اعتمدوا عليه ، ونحن نقول : كلاهما جائز .

أما الخلاء لا يحتاج إليه ههنا ، لأن قوله تعالى : ( يسبحون ) يفهم منه أنه بشق والتئام ، وأما امتناع الشق والالتئام فلا دليل لهم عليه ، وشبهتهم في المحدد للجهات وهي هناك ضعيفة ، ثم إنهم قالوا على ما بينا : تخرج الحركات وبه علمنا الكسوفات ، ولو كان لها حركات مختلفة لما وجب الكسوف في [ ص: 68 ] الوقت الذي يحكم فيه بالكسوف والخسوف ؛ وذلك لأنا نقول للشمس فلكان أحدهما مركزه مركز العالم ، ثانيهما مركزه فوق مركز العالم وهو مثل بياض البيض بين صفرته وبين القيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة ، فإذا جعلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض ، فيقال : إنها في الأوج ، وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض ، فتكون في الحضيض ، وأما القمر فله فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه ، وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة ، وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس ، وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس ، وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مغرق فيها ، ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل الفلك المائل ، والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير ، وكذلك قالوا في الكواكب الخمسة الباقية من السيارات غير أن الفوقاني الذي سموه الجوزهر لم يثبتوه لها فأثبتوا أربعة وعشرين فلكا : الفلك الأعلى وفلك البروج ، ولزحل ثلاثة أفلاك ، الممثل والحامل وفلك التدوير ، وللمشتري ثلاثة كما لزحل ، وللمريخ كذلك ثلاثة ، وللشمس فلكان الممثل والخارج والمركز ، وللزهرة ثلاثة أفلاك كما للعلويات ، ولعطارد أربعة أفلاك الثلاثة التي ذكرناها في العلويات ، وفلك آخر يسمونه المدير ، وللقمر أربعة أفلاك والرابع يسمونه فلك الجوزهر ، والمدير ليس كالجوزهر ؛ لأن المدير غير محيط بأفلاك عطارد وفلك الجوزهر محيط ، ومنهم من زاد في الخمسة في كل فلك فلكين آخرين وجعل تدويراتها مركبة من ثلاثة أفلاك ، وقالوا : إن بسبب هذه الأجرام تختلف حركات الكواكب ، ويكون لها عروض ورجوع واستقامة وبطء وسرعة .

وهذا كلامهم على سبيل الاقتناص والاقتصار ، ونحن نقول : لا يبعد من قدرة الله خلق مثل ذلك ، وأما على سبيل الوجوب ، فلا نسلم ورجوعها واستقامتها بإرادة الله ، وكذلك عرضها وطولها وبطؤها وسرعتها وقربها وبعدها ، هذا تمام الكلام .

المسألة الخامسة : قال المنجمون : الكواكب أحياء بدليل أنه تعالى قال : ( يسبحون ) وذلك لا يطلق إلا على العاقل ، نقول : إن أردتم القدر الذي يصح به التسبيح ، فنقول به لأنه ما من شيء من هذه الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله ، وإن أردتم شيئا آخر فلم يثبت ذلك ، والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام : ( ما لكم لا تنطقون ) ( الصافات : 92 ) وقوله : ( ما أنكم تنطقون ) ( الذاريات : 23 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية