[ ص: 74 ] (
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ) .
وقوله تعالى : (
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ) .
إشارة إلى أنهم يبخلون بجميع ما على المكلف ، وذلك لأن المكلف عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله ، وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا ، وتركوا الشفقة على خلق الله حيث قيل لهم : (
أنفقوا ) فلم ينفقوا ، وفيه لطائف :
الأولى : خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والشفقة فلم يأتوا بشيء منه ، وعباد الله المخلصون خوطبوا بالأدنى فأتوا بالأعلى ، إنما قلنا ذلك لأنهم في التقوى أمروا بأن يتقوا ما بين أيديهم من العذاب أو الآخرة وما خلفهم من الموت أو العذاب ، وهو أدنى ما يكون من الاتقاء ، وأما الخاص فيتقي تغيير قلب الملك عليه وإن لم يعاقبه ، ومتقي العذاب لا يكون إلا للبعيد ، فهم لم يتقوا معصية الله ولم يتقوا عذاب الله ،
والمخلصون اتقوا الله واجتنبوا مخالفته سواء كان يعاقبهم عليه أو لا يعاقبهم ، وأما في الشفقة فقيل لهم : (
أنفقوا مما ) أي بعض ما هو لله في أيديكم فلم ينفقوا ، والمخلصون آثروا على أنفسهم وبذلوا كل ما في أيديهم ، بل أنفسهم صرفوها إلى نفع عباد الله ودفع الضرر عنهم .
الثانية : كما أن في جانب التعظيم ما كان فائدة التعظيم راجعة إلا إليهم ، فإن الله مستغن عن تعظيمهم ، كذلك في جانب الشفقة ما كان فائدة الشفقة راجعة إلا إليهم ، فإن من لا يرزقه المتمول لا يموت إلا بأجله ولا بد من وصول رزقه إليه ، لكن السعيد من قدر الله إيصال الرزق على يده إلى غيره .
الثالثة : قوله : (
مما رزقكم ) إشارة إلى أمرين :
أحدهما : أن البخل به في غاية القبح فإن
أبخل البخلاء من يبخل بمال الغير .
وثانيهما : أنه لا ينبغي أن يمنعكم من ذلك مخافة الفقر فإن الله رزقكم فإذا أنفقتم فهو يخلفه لكم ثانيا كما رزقكم أولا وفيه مسائل أيضا :
المسألة الأولى : عند قوله تعالى : (
وإذا قيل لهم أنفقوا ) حذف الجواب ، وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب وذلك لأنه تعالى لو قال : (
وإذا قيل لهم أنفقوا ) قالوا : (
أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ) لكان كافيا ، فما الفائدة في قوله تعالى : (
وقال الذين كفروا للذين آمنوا ) [ العنكبوت : 12 ] ؟ نقول : الكفار كانوا يقولون بأن الإطعام من الصفات الحميدة وكانوا يفتخرون به ، وإنما أرادوا بذلك القول ردا على المؤمنين ، فقالوا : نحن نطعم الضيوف معتقدين بأن أفعالنا ثناء ، ولولا إطعامنا لما اندفع حاجة الضيف ، وأنتم تقولون : إن إلهكم يرزق من يشاء ، فلم تقولون لنا أنفقوا ؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين لا الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم : (
وقال الذين كفروا للذين آمنوا ) إشارة إلى الرد ، وأما في قولهم : (
اتقوا ما بين أيديكم ) فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا وأعرض الله عن ذكر إعراضهم لحصول العلم به .
المسألة الثانية : ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا : أننفق على من لو يشاء الله رزقه ، وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله : (
وإذا قيل لهم أنفقوا ) فكان جوابهم بأن يقولوا أننفق فلم قالوا :
[ ص: 75 ] (
أنطعم ) ؟ نقول : فيه بيان غاية مخالفتهم ، وذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق - والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره - لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام ، وقالوا : لا نطعم ، وهذا كما يقول القائل لغيره : أعط زيدا دينارا ، يقول : لا أعطيه درهما مع أن المطابق هو أن يقول : لا أعطيه دينارا ، ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك ههنا .
المسألة الثالثة : كان كلامهم حقا ، فإن الله لو شاء أطعمه فلماذا ذكره في معرض الذم ؟ نقول : لأن مرادهم كان
الإنكار لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله ، وكلاهما فاسد بين الله ذلك في قوله : (
مما رزقكم ) فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزائنه مال فهو مخير ، إن أراد أعطى مما في خزائنه ، وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ، ولا يجوز أن يقول من بيده ماله في خزائنك أكثر مما في يدي : أعطه منه ، وقوله : (
إن أنتم إلا في ضلال مبين ) إشارة إلى اعتقادهم أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام ، وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد ، واعتقادهم هو الفاسد وفيه مباحث لغوية ومعنوية .
أما اللغوية : فنقول : " إن " وردت للنفي بمعنى ما ، وكان الأصل في إن أن تكون للشرط ، والأصل في ما أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتقاربا ، واستعمل ما في الشرط ، واستعمل إن في النفي ، أما الوجه المشترك فهو أن كل واحد منهما حرف مركب من حرفين متقاربين ، فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ، ولا بد من أن يكون المعنى الذي يدخل عليه ما وإن لا يكون ثابتا ، أما في ما فظاهر ، وأما في إن فلأنك إذا قلت : إن جاءني زيد أكرمه ينبغي أن لا يكون له في الحال مجيء فاستعمل إن مكان ما ، وقيل : إن زيد قائم أي : ما زيد بقائم ، واستعمل ما في الشرط تقول : ما تصنع أصنع ، والذي يدل على ما ذكرنا أن ما النافية تستعمل حيث لا تستعمل إن ، وذلك لأنك تقول : ما إن جلس زيد فتجعل إن صلة ، ولا تقول : إن جلس زيد . بمعنى النفي ، وبمعنى الشرط تقول : إما ترين ، فتجعل إن أصلا وما صلة ، فدلنا هذا على أن " إن " في الشرط أصل وما دخيل وما في النفي بالعكس .
البحث الثاني : قد ذكرنا أن قوله : (
إن أنتم إلا ) يفيد ما لا يفيد قوله : ( أنتم إلا في ضلال ) لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال .
البحث الثالث : وصف الضلال بالمبين قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال .
البحث الرابع : قد ذكرنا أن قوله : (
في ضلال ) يفيد كونهم مغمورين فيه غائصين ، وقوله في مواضع (
على بينة ) و (
على هدى ) [ البقرة : 5 ] إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه .
وأما المعنوية : فهي أنهم إنما وصفوا الذين آمنوا بكونهم في ضلال مبين لكونهم ظانين أن المؤمن كلامه متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال ، إنما قلنا ذلك لأنهم قالوا : (
أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ) إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم كان يطعمهم فلا تقدر على إطعامهم ؛ لأنه يكون تحصيلا للحاصل ، وإن لم يشأ الله إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام ، فكيف تأمرونا بالإطعام ، ووجه آخر : وهو أنهم قالوا : أراد الله تجويعهم فلو أطعمنا يكون ذلك سعيا
[ ص: 76 ] في إبطال فعل الله ، وأنه لا يجوز وأنتم تقولون : أطعموهم فهو ضلال ولم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر ، وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي أن يكشف سبب الأمر والاطلاع على المقصود الذي أمر به لأجله . مثاله : الملك إذا أراد الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد ، وقال لعبده : أحضر المركوب ، فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره ، فالأدب في الطاعة وهو اتباع الأمر لا تتبع المراد ، فالله تعالى إذا قال : (
أنفقوا مما رزقكم ) لا يجوز أن يقولوا : لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه .