(
وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ) .
ثم قال تعالى : (
وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ) .
لما منع عبادة الشيطان حمل على عبادة الرحمن ، والشارع طبيب الأرواح كما أن الطبيب طبيب الأشباح ، وكما أن الطبيب يقول للمريض : لا تفعل كذا ولا تأكل من ذا ، وهي الحمية التي هي رأس الدواء لئلا يزيد مرضه ، ثم يقول له تناول الدواء الفلاني تقوية لقوته المقاومة للمرض ، كذلك الشارع منع المفسد وهو اتباع الشيطان ، وحمل على المصلح وهو عبادة الرحمن . وفيه مسائل :
المسألة الأولى : عند المنع من عبادة الشيطان قال : (
إنه لكم عدو مبين ) لأن العداوة أبلغ الموانع من الاتباع ، وعند الأمر بعبادة الرحمن لم يقل إنه لكم حبيب ؛ لأن المحبة لا توجب متابعة المحبوب بل ربما يورث ذلك الاتكال على المحبة ، فيقول : إنه يحبني فلا حاجة إلى تحمل المشقة في تحصيل مراضيه ، بل ذكر ما هو أبلغ الأشياء في الحمل على العبادة وذلك كونه طريقا مستقيما ، وذلك لأن الإنسان في دار الدنيا في منزل قفر مخوف وهو متوجه إلى دار إقامة فيها إخوانه ، والنازل في بادية خالية يخاف على روحه وماله ولا يكون عنده شيء أحب من طريق قريب آمن ، فلما قال الله تعالى : (
هذا صراط مستقيم ) كان ذلك سببا حاثا على السلوك ، وفي ضمن قوله تعالى : (
هذا صراط ) إشارة إلى أن الإنسان مجتاز ؛ لأنه لو كان في دار إقامة فقوله : (
هذا صراط مستقيم ) لا يكون له معنى ؛ لأن المقيم يقول : وماذا أفعل بالطريق وأنا من المقيمين .
المسألة الثانية : ماذا يدل على كونه طريقا مستقيما ؟ نقول : الإنسان مسافر إما مسافرة راجع إلى وطنه ، وإما مسافرة تاجر له متاع يتجر فيه ، وعلى الوجهين فالله هو المقصد ، وأما الوطن فلأنه لا يوطن في مأمن ولا أمن إلا بملك لا يزول ملكه ؛ لأن عند زوال ملك الملوك لا يبقى الأمن والراحة ، والله سبحانه هو الذي ملكه دائم وكل ما عداه فهو فان ، وأما التجارة فلأن التاجر لا يقصد إلا إلى موضع يسمع أو يعلم أن لمتاعه
[ ص: 88 ] هناك رواجا ، والله تعالى يقول : إن العمل الصالح عنده مثاب عليه مقابل بأضعاف ما يستحق ، والله هو المقصد ، وعبادته توجه إليه ، ولا شك أن القاصد لجهة إذا توجه إليها يكون على الطريق المستقيم .
المسألة الثالثة :
العبادة تنبئ عن معنى التذلل ، فلما قال : لا تعبدوا الشيطان لزم أن يتكبر الإنسان على ما سوى الله ، ولما قال : (
وأن اعبدوني ) ينبغي أن لا يتكبر على الله ، لكن التكبر على ما سوى الله ليس معناه أنه يرى نفسه خيرا من غيره ، فإن نفسه من جملة ما سوى الله ، فينبغي أن لا يلتفت إليها ولو كانت متجملة بعبادة الله ، بل معنى التكبر على ما سوى الله أن لا ينقاد لشيء إلا بإذن الله وفي هذا التكبر غاية التواضع فإنه حينئذ لا ينقاد إلى نفسه وحظ نفسه في التفوق على غيره فلا يتفوق فيحصل التواضع التام ، ولا ينقاد لأمر الملوك إذا خالفوا أمر الله فيحصل التكبر التام فيرى نفسه بهذا التكبر دون الفقير وفوق الأمير .
ثم إن الله تعالى ذكر ما ينبه لعداوة الشيطان بقوله تعالى : (
ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الجبل ست لغات : كسر الجيم والباء مع تشديد اللام ، وضمهما مع التشديد ، وكسرهما مع التخفيف ، وضمهما معه ، وتسكين الباء وتخفيف اللام مع ضم الجيم ، ومع كسره .
المسألة الثانية : في معنى الجبل الجيم والباء واللام لا تخلو عن معنى الاجتماع ، والجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة ، وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب ، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعة اللبن الكثير ، لا يقال : البلجة نقض على ما ذكرتم ، فإنها تنبئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون ؛ لأنا نقول هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات ، فإن البلجة والبلدة بمعنى ، والبلد سمي بلدا للاجتماع لا للتفرق ، فالجبل الجمع العظيم حتى قيل : إن دون العشرة آلاف لا يكون جبلا وإن لم يكن صحيحا .
والمسألة الثالثة : كيف الإضلال ؟ نقول على وجهين :
أحدهما : أن الإضلال تولية عن المقصد وصد عنه فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو تولية ، فإن لم يقدر يأمره بعبادة الله لأمر غير الله من رياسة وجاه وغيرهما فهو صد ، وهو يفضي إلى التولية ؛ لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية .
ثم بين
مآل أهل الضلال بقوله تعالى : (
هذه جهنم التي كنتم توعدون ) .
وحال الضال كحال شخص خرج من وطنه مخافة عدوه فوقع في مشقة ، ولو أقام في وطنه لعل ذلك العدو كان لا يظفر به أو يرحمه ، كذلك حال من لم يتحرك لطاعة ولا عصيان كالمجانين ، وحال من استعمل عقله فأخطأ الطريق ، فإن المجنون من أهل النجاة وإن لم يكن من أهل الدرجات ، وقد قيل بأن البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، وذلك ظاهر في المحسوس فإن من لم يعرف الطريق إذا أقام بمكانه لا يبعد عن الطريق كثيرا ومن سار إلى خلاف المقصد يبعد عنه كثيرا .
ثم بين أنهم واصلون إليها حاصلون فيها بقوله تعالى :
(
اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ) .
وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم من ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله تعالى : (
اصلوها ) فإنه أمر تنكيل وإهانة كقوله : (
ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] .
والثاني : قوله : (
اليوم ) يعني : العذاب
[ ص: 89 ] حاضر ، ولذاتك قد مضت وأيامها قد انقضت وبقي اليوم العذاب .
الثالث : وقوله تعالى : (
بما كنتم تكفرون ) فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت يكفر بها ،
وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام . ولهذا كثيرا ما يقول العبد المجرم : افعلوا بي ما يأمر به السيد ولا تحضروني بين يديه وإلى هذا المعنى أشار القائل :
أليس بكاف لذي نعمة حياء المسيء من المحسن