1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة يس
  4. قوله تعالى اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون
صفحة جزء
( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) .

ثم قال تعالى : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) في الترتيب وجوه :

الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى : ( بما كنتم تكفرون ) يريدون [ أن ] ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم : ما أشركنا ، وقالوا آمنا به فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانهم من الجوارح فيعترفون بذنوبهم .

الثاني : لما قال الله تعالى لهم : ( ألم أعهد إليكم ) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان ، وفي الختم على الأفواه وجوه :

أقواها ، أن الله تعالى يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها وينطق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإنه في قدرة الله يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة ، فكما جاز تحركه بها جاز تحرك غيره بمثلها ، والله قادر على الممكنات ، والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم ، فيقفون ناكسي الرءوس وقوف القنوط اليئوس لا يجد عذرا فيعتذر ولا مجال توبة فيستغفر ، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار حتى تنطق به الأيدي والأبصار ، كما يقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار ، إشارة إلى ظهور الحزن ، والأول الصحيح وفيه لطائف لفظية ومعنوية .

أما اللفظية فالأولى منها : هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال : ( نختم ) وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل ؛ لأنه لو قال تعالى : ( نختم على أفواههم ) وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا وقهرا ، والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال تعالى : ( وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ) أي باختيارها بعدما يقدرها الله - تعالى - على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم .

الثانية منها : هي أن الله تعالى قال : ( وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ) جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي ؛ لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى : ( وما عملته أيديهم ) [ يس : 35 ] أي ما عملوه وقال : ( ولا تلقوا بأيديكم ) [ البقرة : 195 ] أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة ، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره ، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها .

وأما المعنوية فالأولى منها : أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة ، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق غير مقبول الشهادة ، فجعل الله الشاهد عليهم منهم ، لا يقال الأيدي والأرجل أيضا صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها ، لأنا نقول : في رد شهادتها قبول شهادتها ؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم ، والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور ، لا بد من أن يكون مذنبا في الدنيا ، وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا ، وهذا كمن قال لفاسق : إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر ، فقال الفاسق : كذبت في نهار [ ص: 90 ] هذا اليوم ، عتق العبد ؛ لأنه إن صدق في قوله : كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووجب الجزاء ، وإن كذب في قوله : كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم ، فوجد الشرط أيضا بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه .

المسألة الثانية : الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم ، ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم كما قال تعالى : ( ذلك قولهم بأفواههم ) [ التوبة : 30 ] فلما ختم على أفواههم أيضا لزم أن يكون قولهم بأعضائهم ؛ لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء ، فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان .

التالي السابق


الخدمات العلمية