(
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) .
فقال تعالى : (
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ) .
ووجهه هو أن الإنسان مشتمل على جسم يحس به وحياة سارية فيه ، وهي كحرارة جارية فيه فإن استبعدتم وجود حرارة وحياة فيه فلا تستبعدوه ، فإن النار في الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب وأغرب وأنتم تحضرون حيث منه توقدون ، وإن استبعدتم خلق جسمه
فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق أنفسكم فلا تستبعدوه فإن الله خلق السماوات والأرض فبان لطف قوله تعالى : (
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ) .
[ ص: 97 ] وقوله تعالى : (
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) قدم ذكر النار في الشجر على ذكر الخلق الأكبر ؛ لأن استبعادهم كان بالصريح واقعا على الإحياء حيث قالوا : (
من يحيي العظام ) ولم يقولوا من يجمعها ويؤلفها والنار في الشجر تناسب الحياة .
وقوله تعالى : (
بلى وهو الخلاق ) إشارة إلى أنه في القدرة كامل .
وقوله تعالى : ( العليم ) إشارة إلى أن علمه شامل .
ثم أكد بيانه بقوله تعالى : (
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) وهذا إظهار فساد تمثيلهم وتشبيههم وضرب مثلهم ، حيث ضربوا لله مثلا وقالوا : لا يقدر أحد على مثل هذا ؛ قياسا للغائب على الشاهد ، فقال في الشاهد : الخلق يكون بالآلات البدنية والانتقالات المكانية ولا يقع إلا في الأزمنة الممتدة
والله يخلق بكن فيكون ، فكيف تضربون المثل الأدنى وله المثل الأعلى من أن يدرك . وفي الآية مباحث :
البحث الأول : قالت
المعتزلة : هذه الآية دالة على
أن المعدوم شيء ؛ لأنه يقول لما أراده : (
كن فيكون ) فهو قبل القول له كن لا يكون وهو في تلك الحالة شيء حيث قال : (
إنما أمره إذا أراد شيئا ) والجواب أن هذا بيان لعدم تخلف الشيء عن تعلق إرادته به ، فقوله : (
إذا ) مفهوم الحين والوقت ، والآية دالة على أن المراد شيء حين تعلق الإرادة به ولا دلالة فيها على أنه شيء قبل ما إذا أراد وحينئذ لا يرد ما ذكروه ؛ لأن الشيء حين تعلق الإرادة به شيء موجود لا يريده في زمان ويكون في زمان آخر ، بل يكون في زمان تعلق الإرادة ، فإذا الشيء هو الموجود لا المعدوم لا يقال : كيف يريد الموجود وهو موجود فيكون ذلك إيجادا لموجود ؟ نقول : هذا الإشكال من باب المعقولات ونجيب عنه في موضعه ، وإنما غرضنا إبطال تمسكهم باللفظ ، وقد ظهر أن المفهوم من هذا الكلام أنه يريد ما هو شيء إذا أراد ، وليس في الآية أنه إذا أراد ما كان شيئا قبل تعلق الإرادة .
البحث الثاني :
قالت الكرامية : لله إرادة محدثة بدليل قوله تعالى : ( إذا أراد ) ووجه دلالته من أمرين :
أحدهما : من حيث إنه جعل للإرادة زمانا ، فإن إذا ظرف زمان ، وكل ما هو زماني فهو حادث .
وثانيهما : هو أنه تعالى جعل إرادته متصلة بقوله : (
كن ) وقوله : (
كن ) متصل بكون الشيء ووقوعه ؛ لأنه تعالى قال : (
فيكون ) بفاء التعقيب لكن الكون حادث ، وما قبل الحادث متصل به حادث .
والفلاسفة وافقوهم في هذا الإشكال من وجه آخر ، فقالوا : إرادته متصلة بأمره وأمره متصل بالكون ، ولكن إرادته قديمة ، فالكون قديم ، فمكونات الله قديمة ، وجواب الضالين من التمسك باللفظ هو أن المفهوم من قوله : (
إذا أراد ) من حيث اللغة إذا تعلقت إرادته بالشيء ؛ لأن قوله : (
أراد ) فعل ماض ، وإذا دخلت كلمة إذا على الماضي تجعله في معنى المستقبل ، ونحن نقول : إن مفهوم قولنا أراد ويريد وعلم ويعلم يجوز أن يدخله الحدوث ، وإنما نقول لله تعالى صفة قديمة هي الإرادة ، وتلك الصفة إذا تعلقت بشيء نقول : أراد ويريد ، وقبل التعلق لا نقول أراد ، وإنما نقول : له إرادة وهو بها مريد ، ولنضرب مثالا للأفهام الضعيفة ليزول ما يقع في الأوهام السخيفة ، فنقول : قولنا : فلان خياط ، يراد به أن له صنعة الخياطة ، فلو لم يصح منا أن نقول : إنه خاط ثوب زيد أو يخيط ثوب زيد ، لا يلزم منه نفي صحة قولنا : إنه خياط بمعنى أن له صنعة بها يطلق عليه عند استعماله الصنعة في ثوب زيد في زمان ماض خاط ثوبه ، وبها يطلق عليه عند استعماله تلك الصنعة في ثوب زيد في زمان مستقبل يخيط ثوبه ، ولله المثل الأعلى فافهم أن الإرادة أمر ثابت إن تعلقت بوجود شيء نقول : أراد وجوده أي : يريد وجوده ، وإذا علمت هذا فهو في المعنى من
[ ص: 98 ] كلام أهل السنة : تعلق الإرادة حادث وخرج بما ذكرنا جواب الفريقين .
البحث الثالث :
قالت المعتزلة والكرامية كلام الله حرف وصوت وحادث ؛ لأن قوله : (
كن ) كلام ، ( وكن ) من حرفين ، والحرف من الصوت ، ويلزم من هذا أن كلامه من الحروف والأصوات ، وأما أنه حادث فلما تقدم من الوجهين :
أحدهما : أنه زماني .
والثاني : أنه متصل بالكون والكون حادث .
والجواب يعلم مما ذكرنا ، وذلك لأن الكلام صفة إذا تعلقت بشيء تقول : قال ويقول فتعلق الخطاب حادث والكلام قديم فقوله تعالى : (
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فيه تعلق وإضافة ؛ لأن قوله تعالى : (
يقول له ) باللام للإضافة صريح في التعلق ونحن نقول : إن قوله للشيء الحادث حادث ؛ لأنه مع التعلق ، وإنما القديم قوله وكلامه لا مع التعلق ، وكل قديم وحادث إذا نظرت إلى مجموعهما لا تجدهما في الأزل وإنما تجدهما جميعا فيما لا يزال فله معنى الحدوث ، ولكن الإطلاق موهم ، فتفكر جدا ولا تقل : المجموع حادث من غير بيان مرادك ، فإن ذلك قد يفهم منه أن الجميع حادث ، بل حقق الإشارة وجود العبادة ، وقل : أحد طرفي المجموع قديم والآخر حادث ولم يكن الآخر معه في الأزل ، وأما قوله : (
كن ) من الحروف ، نقول : الكلام يطلق على معنيين :
أحدهما : ما عند المتكلم .
والثاني : ما عند السامع ، ثم إن أحدهما يطلق عليه أنه هو الآخر ومن هذا يظهر فوائد .
أما بيان ما ذكرناه ، فلأن الإنسان إذا قال لغيره : عندي كلام أريد أن أقوله لك غدا ، ثم إن السامع أتاه غدا وسأله عن الكلام الذي كان عنده أمس ، فيقول له : إني أريد أن تحضر عندي اليوم ، فهذا الكلام أطلق عليه المتكلم أنه كان عندك أمس ولم يكن عند السامع ، ثم حصل عند السامع بحرف وصوت ، ويطلق عليه أن هذا الذي سمعت هو الذي كان عندي ، ويعلم كل عاقل أن الصوت لم يكن عند المتكلم أمس ولا الحرف ؛ لأن الكلام الذي عنده جاز أن يذكره بالعربية فيكون له حروف ، وجاز أن يذكره بالفارسية فيكون له حروف أخر ، والكلام الذي عنده ووعد به واحد والحروف مختلفة كثيرة ، فإذا معنى قوله هذا ما كان عندي ، هو أن هذا يؤدي إليك ما كان عندي ، وهذا أيضا مجاز ؛ لأن الذي عنده ما انتقل إليه ، وإنما علم ذلك وحصل عنده به علم مستفاد من السمع أو البصر في القراءة والكتابة أو الإشارة ، إذا علمت هذا فالكلام الذي عند الله وصفة له ليس بحرف على ما بان ، والذي يحصل عند السامع حرف وصوت ، وأحدهما الآخر لما ذكرنا من المعنى وتوسع الإطلاق ، فإذا قال تعالى : (
يقول له ) حصل قائل وسامع ، فاعتبرها من جانب السامع لكون وجود الفعل من السامع لذلك القول ، فعبر عنه بالكاف والنون الذي يحدث عند السامع ويحدث به المطلوب .