[ ص: 100 ] ( سورة الصافات )
وآياتها ثنتان وثمانون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
(
والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
(
والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :
قرأ أبو عمرو وحمزة : " والصافات صفا " بإدغام التاء فيما يليه ، وكذلك في قوله : (
فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا ) والباقون بالإظهار ، وقال
الواحدي رحمه الله : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ، ألا ترى أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس ، والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصفير ، وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ، ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتا في الأنقص ، وأيضا إدغام التاء في الزاي في قوله : (
فالزاجرات زجرا ) حسن ؛ لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة ، وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد ، وأيضا حسن إدغام التاء في الذال في قوله : (
فالتاليات ذكرا ) لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا ، وأما من قرأ بالإظهار وترك الإدغام فذلك لاختلاف المخارج ، والله أعلم .
المسألة الثانية : في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة المقسم بها يحتمل أن تكون صفات ثلاثة لموصوف واحد ، ويحتمل أن تكون أشياء ثلاثة متباينة ، أما على التقدير الأول ففيه وجوه :
الأول : أنها
صفات الملائكة ، وتقديره أن الملائكة يقفون صفوفا . إما في السماوات لأداء العبادات كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا : (
وإنا لنحن الصافون ) [ الصافات : 165 ] وقيل : إنهم يصفون أجنحتهم في الهواء يقفون منتظرين وصول أمر الله إليهم ، ويحتمل أيضا أن يقال معنى كونهم صفوفا أن لكل واحد منهم مرتبة معينة ودرجة معينة في الشرف والفضيلة أو في الذات والعلية ، وتلك الدرجة المرتبة باقية غير متغيرة وذلك يشبه الصفوف .
وأما
قوله : ( فالزاجرات زجرا ) فقال
الليث : يقال زجرت البعير فأنا أزجره زجرا إذا حثثته ليمضي ،
[ ص: 101 ] وزجرت فلانا عن سوء فانزجر أي نهيته فانتهى ، فعلى هذا الزجر للبعير كالحث وللإنسان كالنهي ، إذا عرفت هذا فنقول في
وصف الملائكة بالزجر وجوه :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد الملائكة الذين وكلوا بالسحاب يزجرونها بمعنى أنهم يأتون بها من موضع إلى موضع .
الثاني : المراد منه أن
الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهامات فهم يزجرونهم عن المعاصي زجرا .
الثالث : لعل الملائكة أيضا يزجرون الشياطين عن التعرض لبني
آدم بالشر والإيذاء ، وأقول : قد ثبت في العلوم العقلية أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الموجودات ، ومتأثر لا يؤثر وهم عالم الأجسام وهو أخس الموجودات ، وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء آخر وهو عالم الأرواح ، وذلك لأنها تقبل الأثر عن عالم كبرياء الله ، ثم إنها تؤثر في عالم الأجسام ، واعلم أن الجهة التي باعتبارها تقبل الأثر من عالم كبرياء الله غير الجهة التي باعتبارها تستولي على عالم الأجسام وتقدر على التصرف فيها ، وقوله : (
فالتاليات ذكرا ) إشارة إلى الأشرف من الجهة التي باعتبارها تقوى على التأثير في عالم الأجسام ، إذا عرفت هذا فقوله : (
والصافات صفا ) إشارة إلى وقوفها صفا صفا في مقام العبودية والطاعة بالخشوع والخضوع ، وهي الجهة التي باعتبارها تقبل تلك الجواهر القدسية أصناف الأنوار الإلهية والكمالات الصمدية ، وقوله تعالى : (
فالزاجرات زجرا ) إشارة إلى تأثير الجواهر الملكية في تنوير الأرواح القدسية البشرية وإخراجها من القوة إلى الفعل ، وذلك لما ثبت أن هذه الأرواح النطقية البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس ، وأن هذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس ، وأن هذه الأرواح البشرية إنما تنتقل من القول إلى الفعل في المعارف الإلهية والكمالات الروحانية بتأثيرات جواهر الملائكة ، ونظيره قوله تعالى : (
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ) [ النحل : 2 ] وقوله : (
نزل به الروح الأمين على قلبك ) [ الشعراء : 193 ] وقوله تعالى : (
فالملقيات ذكرا ) [ المرسلات : 5 ] إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية دقيقة أخرى وهي أن الكمال المطلق للشيء إنما يحصل إذا كان تاما وفوق التام ، والمراد بكونه تاما أن تحصل جميع الكمالات اللائقة به حصولا بالفعل ، والمراد بكونه فوق التام أن تفيض منه أصناف الكمالات والسعادات على غيره ، ومن المعلوم أن كونه كاملا في ذاته مقدم على كونه مكملا لغيره ، إذا عرفت هذا فقوله : (
والصافات صفا ) إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها وقت وقوفها في مواقف العبودية وصفوف الخدمة والطاعة ، وقوله تعالى : (
فالزاجرات زجرا ) إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن جواهر الأرواح البشرية ، وقوله تعالى : (
فالتاليات ذكرا ) إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الناطقة البشرية ، فهذه مناسبات عقلية واعتبارات حقيقية تنطبق عليها هذه الألفاظ الثلاثة ، قال
أبو مسلم الأصفهاني : لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة ؛ لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة مبرءون عن هذه الصفة ، والجواب من وجهين :
الأول : أن الصافات جمع الجمع ، فإنه يقال : جماعة صافة ثم يجمع على صافات .
والثاني : أنهم مبرءون عن التأنيث المعنوي ، أما التأنيث في اللفظ فلا ، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة في هذا الوجه .
الثاني : أن تحمل هذه الصافات على النفوس البشرية الطاهرة المقدسة المقبلة على عبودية الله - تعالى -الذين هم ملائكة الأرض وبيانه من وجهين :
الوجه الأول : أن قوله تعالى : (
والصافات صفا ) المراد الصفوف الحاصلة عند أداء الصلوات بالجماعة
[ ص: 102 ] وقوله : (
فالزاجرات زجرا ) إشارة إلى
قراءة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم بسبب قراءة هذه الكلمة يزجرون الشياطين عن إلقاء الوساوس في قلوبهم في أثناء الصلاة ، وقوله : (
فالتاليات ذكرا ) إشارة إلى قراءة القرآن في الصلاة وقيل : (
فالزاجرات زجرا ) إشارة إلى رفع الصوت بالقراءة كأنه يزجر الشيطان بواسطة رفع الصوت ، روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013608أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف على بيوت أصحابه في الليالي ، فسمع أبا بكر يقرأ بصوت منخفض ، وسمع عمر يقرأ بصوت رفيع ، فسأل أبا بكر : لم تقرأ هكذا ؟ فقال : المعبود سميع عليم ، وسأل عمر : لم تقرأ هكذا ؟ فقال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان .
الوجه الثاني : في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن
المراد من قوله : ( والصافات صفا ) الصفوف الحاصلة من العلماء المحقين الذين يدعون إلى دين الله تعالى ، والمراد من قوله : (
فالزاجرات زجرا ) اشتغالهم بالزجر عن الشبهات والشهوات ، والمراد من قوله تعالى : (
فالتاليات ذكرا ) اشتغالهم بالدعوة إلى دين الله والترغيب في العمل بشرائع الله .
الوجه الثالث : في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نحملها على
أحوال الغزاة والمجاهدين في سبيل الله فقوله : (
والصافات صفا ) المراد منه صفوف القتال لقوله تعالى : (
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ) [ الصف : 4 ] وأما ( الزاجرات زجرا ) فالزجرة والصيحة سواء ، والمراد منه رفع الصوت بزجر الخيل ، وأما ( التاليات ذكرا ) فالمراد اشتغال الغزاة وقت شروعهم في محاربة العدو بقراءة القرآن وذكر الله تعالى بالتهليل والتقديس .