[ ص: 130 ] (
قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم ) .
قوله تعالى : (
قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن القوم لما عاتبوا
إبراهيم على كسر الأصنام فهو أيضا ذكر لهم الدليل الدال على فساد المصير إلى عبادتها فقال : (
أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) ووجه الاستدلال ظاهر وهو أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبودا للإنسان البتة ، فإذا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه إلا آثار تصرفه ، فلو صار معبودا عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي ما كان معبودا لما حصلت آثار تصرفاته فيه صار معبودا عند ذلك ، وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل .
المسألة الثانية : احتج جمهور الأصحاب بقوله : (
والله خلقكم وما تعملون ) على أن
فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فقال النحويون : اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله : (
وما تعملون ) معناه وعملكم ، وعلى هذا التقدير صار معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم ، فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال : (
أتعبدون ما تنحتون ) أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل ، ولو كان ذلك واقعا بتخليق الله لاستحال كونه فعلا للعبد .
الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام ؛ لأنه تعالى بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام ، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، فلما تركوا عبادته سبحانه وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على هذا الخطأ العظيم فقال : (
أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) ولو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توبيخهم عليها ، سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ، لكن لا نسلم أنها حجة لكم ، قوله : لفظة " ما " مع ما بعدها في تقدير المصدر ، قلنا : هذا ممنوع وبيانه أن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه والأخفش اختلفا في أنه هل يجوز أن يقال : أعجبني ما قمت . أي : قيامك فجوزه
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ومنعه
الأخفش ، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي ، وذلك يدل على أن ما مع ما بعدها في تقدير المفعول عند
الأخفش ، سلمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر ، لكنه أيضا قد يكون بمعنى المفعول ويدل عليه وجوه :
الأول : قوله : (
أتعبدون ما تنحتون ) والمراد بقوله : (
ما تنحتون ) المنحوت لا النحت ؛ لأنهم ما عبدوا النحت وإنما عبدوا المنحوت ، فوجب أن يكون المراد بقوله : (
ما تعملون ) المعمول لا العمل حتى يكون كل واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر .
والثاني : أنه تعالى قال : (
فإذا هي تلقف ما يأفكون ) [ الأعراف : 117 ] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك ، بل أراد العصي والحبال التي هي متعلقات ذلك الإفك ، فكذا ههنا .
الثالث : أن العرب تسمي محل العمل عملا يقال في الباب : والخاتم هذا عمل فلان ، والمراد محل عمله ، فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن لفظة ما مع بعدها كما تجيء بمعنى
[ ص: 131 ] المصدر فقد تجيء أيضا بمعنى المفعول ، فكان حمله ههنا على المفعول أولى ؛ لأن المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم ؛ لأن الذي جرى ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال ، واعلم أن هذه السؤالات قوية وفي دلائلنا كثرة ، فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية والله أعلم .
واعلم أن
إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم هذه الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريق الإيذاء ، فقالوا : (
ابنوا له بنيانا ) واعلم أن كيفية ذلك البناء لا يدل عليها لفظ القرآن ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا ، وملئوه نارا فطرحوه فيها ، وذلك هو قوله تعالى : (
فألقوه في الجحيم ) وهي النار العظيمة ، قال
الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم ، والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية ، والمعنى في جحيمه ، أي : في جحيم ذلك البنيان ، ثم قال تعالى : (
فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ) والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له ، وعندما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار ، فصار هو الغالب عليهم .
واعلم أنه لما انقضت هذه الواقعة قال
إبراهيم : (
إني ذاهب إلى ربي ) ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
وقال إني مهاجر إلى ربي ) [ العنكبوت : 26 ] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن
الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته ، وذلك لأن
إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة ، لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار ، فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى .
المسألة الثانية : في
قوله ( وقال إني ذاهب إلى ربي ) قولان :
الأول : المراد منه مفارقة تلك الديار ، والمعنى إني ذاهب إلى مواضع دين ربي .
والقول الثاني : قال
الكلبي : ذاهب بعبادتي إلى ربي ، فعلى القول الأول المراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار ، وبه اقتدى
موسى حيث قال : (
كلا إن معي ربي سيهدين ) [ الشعراء : 62 ] .
وعلى القول الثاني : المراد رعاية أحوال القلوب ، وهو أن لا يأتي بشيء من الأعمال إلا لله تعالى ، كما قال : (
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] قيل : إن القول الأول أولى ؛ لأن المقصود من هذه الآية بيان مهاجرته إلى أرض
الشأم ، وأيضا يبعد حمله على الهداية في الدين ؛ لأنه كان على الدين في ذلك الوقت إلا أن يحمل ذلك على الثبات عليه ، أو يحمل ذلك على الاهتداء إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في أمر الدين .
المسألة الثالثة : قوله : (
سيهدين ) يدل على أن الهداية لا تحصل إلا من الله تعالى ، كما يقول أصحابنا ، ولا يمكن حمل هذه الهداية على وضع الأدلة وإزاحة الأعذار ؛ لأن كل ذلك قد حصل في الزمان الماضي ، وقوله : (
سيهدين ) يدل على اختصاص تلك الهداية بالمستقبل ، فوجب حمل الهداية في هذه الآية على تحصيل العلم والمعرفة في قلبه ، فإن قيل :
إبراهيم عليه السلام جزم في هذه الآية بأنه تعالى سيهديه ، وأن
موسى عليه السلام لم يجزم به ، بل قال : (
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) [ القصص : 22 ] فما الفرق ؟ قلنا : العبد إذا تجلى له مقامات رحمة الله فقد يجزم بحصول المقصود ، وإذا تجلى له مقامات كونه غنيا عن العالمين ، فحينئذ يستحقر نفسه فلا يجزم ، بل لا يظهر إلا الرجاء والطمع .
[ ص: 132 ] المسألة الرابعة : قوله تعالى : (
إني ذاهب إلى ربي ) يدل على فساد تمسك المشبهة بقوله تعالى : (
إليه يصعد الكلم الطيب ) [ فاطر : 10 ] لأن كلمة إلى موجودة في قوله : (
إني ذاهب إلى ربي ) مع أنه لم يلزم أن يكون الإله موجودا في ذلك المكان ، فكذلك ههنا .
واعلم أنه صلوات الله عليه لما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال : (
هب لي من الصالحين ) أي : هب لي بعض الصالحين ، يريد الولد ؛ لأن لفظ الهبة غلب في الولد ، وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى : (
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ) [ مريم : 53 ] وقال تعالى : (
ووهبنا له إسحاق ويعقوب ) [ الأنعام : 84 ] (
ووهبنا له يحيى ) [ الأنبياء : 90 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس رضي الله عنهم حين هنأه بولده : على أبي الأملاك شكرت الواهب ، وبورك لك في الموهوب ، ولذلك وقعت التسمية بهبة الله تعالى وبهبة الوهاب وبموهوب ووهب .
واعلم أن هذا الدعاء اشتمل على ثلاثة أشياء : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ الحلم ، وأنه يكون حليما ، وأي حلم يكون أعظم من ولد حين عرض عليه أبوه الذبح قال : (
ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) [ الصافات : 102 ] ثم استسلم لذلك ، وأيضا فإن
إبراهيم عليه السلام كان موصوفا بالحلم ، قال تعالى : (
إن إبراهيم لأواه حليم ) [ التوبة : 114 ] ، (
إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) [ هود : 75 ] فبين أن ولده موصوف بالحلم ، وأنه قائم مقامه في صفات الشرف والفضيلة ، واعلم أن الصلاح أفضل الصفات بدليل أن الخليل عليه السلام طلب الصلاح لنفسه ، فقال : (
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ) [ الشعراء : 83 ] وطلبه للولد فقال : (
رب هب لي من الصالحين ) وطلبه
سليمان عليه السلام بعد كمال درجته في الدين والدنيا ، فقال : (
وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) [ النمل : 19 ] وذلك يدل على أن الصلاح أشرف مقامات العباد .