(
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين )
قوله تعالى : (
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين ) . وفيه مسائل :
[ ص: 146 ] المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها وسخافتها ، ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم
أثبتوا الأولاد لله سبحانه وتعالى ، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال : (
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ) وهذا معطوف على قوله في أول السورة : (
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا ) [الصافات : 11] وذلك لأنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء
قريش عن وجه
إنكار البعث أولا ، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض إلى أن أمره بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولأنفسهم البنين ، ونقل
الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن
قريشا وأجناس العرب
جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا : الملائكة بنات الله ، واعلم أن هذا الكلام يشتمل على أمرين :
أحدهما :
إثبات البنات لله وذلك باطل ; لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت ، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه كيف يمكن إثباته للخالق .
والثاني : إثبات أن الملائكة إناث ، وهذا أيضا باطل ; لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر ، أما الحس : فمفقود ههنا لأنهم ما شهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله : (
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ) وأما الخبر : فمفقود أيضا ; لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقا قطعا ، وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون ، لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة ، وهو المراد من قوله : (
ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون ) وأما النظر : فمفقود وبيانه من وجهين :
الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب ; لأن الله تعالى أكمل الموجودات ، والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس وهو المراد من قوله : (
أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون ) يعني إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب عند العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل ، فإن كان حكم العقل معتبرا في هذا الباب كان قولكم باطلا .
والوجه الثاني : أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم ، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم ، فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم ، وهذا هو المراد من قوله : (
أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ) فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته ، لا الحس ولا الخبر ولا النظر ، فكان المصير إليه باطلا قطعا ، واعلم أنه تعالى لما طالبهم بما يدل على صحة مذهبهم دل ذلك على أن التقليد باطل ، وأن الدين لا يصح إلا بالدليل .
المسألة الثانية : قوله : (
أاصطفى البنات على البنين ) قراءة العامة بفتح الهمزة وقطعها من (
أاصطفى ) ثم بحذف ألف الوصل وهو استفهام توبيخ وتقريع ، كقوله تعالى : (
أم اتخذ مما يخلق بنات ) [الزخرف : 16] وقوله تعالى : (
أم له البنات ولكم البنون ) [الطور : 39] وقوله تعالى : (
ألكم الذكر وله الأنثى ) [النجم : 21] وكما أن هذه المواضع كلها استفهام فكذلك في هذه الآية ، وقرأ
نافع في بعض الروايات : "لكاذبون اصطفى" موصولة بغير استفهام ، وإذا ابتدأ كسر الهمزة على وجه الخبر ، والتقدير اصطفى البنات في زعمهم كقوله : (
ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [الدخان : 49] في زعمه واعتقاده .
ثم قال تعالى : (
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) واختلفوا في المراد بالجنة على وجوه :
الأول : قال
مقاتل : أثبتوا نسبا بين الله تعالى وبين الملائكة حين زعموا أنهم بنات الله ، وعلى هذا القول فالجنة هم الملائكة ، سموا جنا لاجتنابهم عن الأبصار أو لأنهم خزان الجنة ، وأقول هذا القول عندي مشكل ، لأنه تعالى
[ ص: 147 ] أبطل
قولهم الملائكة بنات الله ، ثم عطف عليه قوله : (
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) والعطف يقتضي كون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية غير ما تقدم .
الثاني : قال :
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد قالت كفار
قريش : الملائكة بنات الله ، فقال لهم
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق : فمن أمهاتهم ؟ قالوا : سروات الجن ، وهذا أيضا عندي بعيد لأن المصاهرة لا تسمى نسبا .
والثالث : روينا في تفسير قوله تعالى : (
وجعلوا لله شركاء الجن ) [الأنعام : 100] أن قوما من الزنادقة يقولون : الله وإبليس أخوان فالله : الخير الكريم ، وإبليس : هو الأخ الشرير الخسيس ، فقوله تعالى : (
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) المراد منه هذا المذهب ، وعندي أن هذا القول أقرب الأقاويل . وهو مذهب
المجوس القائلين بيزدان وإهرمن ، ثم قال تعالى : (
ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) أي : قد علمت الجنة أن الذين قالوا هذا القول محضرون النار ويعذبون ، وقيل المراد : ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب ، فعلى القول الأول : الضمير عائد إلى قائل هذا القول ، وعلى القول الثاني : عائد إلى الجنة أنفسهم ، ثم إنه تعالى نزه نفسه عما قالوا من الكذب فقال : (
سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين ) وفي هذا الاستثناء وجوه :
قيل : استثناء من المحضرين ، يعني : أنهم ناجون ، وقيل هو استثناء من قوله تعالى : (
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) وقيل : هو استثناء منقطع من المحضرين ، ومعناه ولكن المخلصين برآء من أن يصفوه بذلك ، والمخلص بكسر اللام من أخلص العبادة والاعتقاد لله ، وبفتحها من أخلصه الله بلطفه . والله أعلم .