(
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب )
قوله تعالى : (
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له )
[ ص: 165 ] (
تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) اعلم أن الله تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقا للثناء والمدح العظيم .
أما
قوله تعالى : ( وهل أتاك نبأ الخصم ) فهو نظير قوله تعالى : (
هل أتاك حديث موسى ) [طه : 9] وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ، ليكون داعيا إلى الإصغاء لها والاعتبار بها ، وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال :
أحدها : ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه .
وثانيها : دلالتها على الصغيرة .
وثالثها : بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة .
فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها : أن
داود عشق
امرأة أوريا ، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته ، وعرضا تلك الواقعة عليه . فحكم
داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبا ، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة .
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه .
الأول : أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها ، والرجل الحوشي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه .
الثاني : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين : إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق ، وإلى الطمع في زوجته ، أما الأول : فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013618من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله .
وأما الثاني : فمنكر عظيم ، قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013619المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وإن
أوريا لم يسلم من
داود لا في روحه ولا في منكوحه .
والثالث : أن الله تعالى وصف
داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشر المذكورة ، ووصفه أيضا بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة ، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح ، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان .
فنقول : أما الصفات الأولى : فهي
أنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة ، ولو قلنا : إن
داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم امرئ مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر
محمدا أفضل الرسل بأن يقتدي
بداود في الصبر على طاعة الله .
وأما الصفة الثانية : فهي أنه وصفه بكونه عبدا له ، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملا في موقف العبودية ، تاما في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات ، ولو قلنا إن
داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة ، فحينئذ ما كان
داود كاملا في عبوديته لله تعالى ، بل كان كاملا في طاعة الهوى والشهوة .
الصفة الثالثة : هو قوله : (
ذا الأيد ) أي ذا القوة ، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين ، لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات ،
[ ص: 166 ] والاجتناب عن المحظورات ، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم ؟
الصفة الرابعة : كونه أوابا كثير الرجوع إلى الله تعالى ، وكيف يليق هذا بمن يكون قلبه مشغوفا بالقتل والفجور ؟
الصفة الخامسة : قوله تعالى : (
إنا سخرنا الجبال معه ) أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذه وسيلة إلى القتل والفجور ؟
الصفة السادسة : قوله : (
والطير محشورة ) ، وقيل إنه كان محرما عليه صيد شيء من الطير وكيف يعقل أن يكون الطير آمنا منه ولا ينجو منه الرجل المسلم على روحه ومنكوحه ؟
الصفة السابعة : قوله : (
وشددنا ملكه ) ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شدد ملكه بأسباب الدنيا ، بل المراد أنه تعالى شدد ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة ، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك ؟
الصفة الثامنة : قوله تعالى : (
وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا ، فكيف يجوز أن يقول الله تعالى : إنا (
وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) مع إصراره على ما يستنكف عنه الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والمنكوح ، فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على
براءة ساحته عن تلك الأكاذيب .