وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فهي عشر :
الأولى : قوله : (
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) وذكر هذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوله في طاعة الله ، أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله : (
وإن له عندنا لزلفى ) لائقا به .
الثانية : قوله تعالى : (
ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) [ ص : 26 ] وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه :
أحدها : أن الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فبعد فراغه من شرح القصة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد إني فوضت إليك خلافتي ونيابتي ، وذلك لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر ، فأما جعله نائبا وخليفة لنفسه فذلك البتة مما لا يليق .
وثانيها : أنه ثبت في أصول الفقه أن
ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة ، ثم قال بعده : (
إنا جعلناك خليفة في الأرض ) أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة ، ومعلوم أن هذا فاسد ، أما لو ذكر تلك القصة على وجوه تدل على
براءة ساحته عن المعاصي والذنوب ، وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى ، فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه (
إنا جعلناك خليفة في الأرض ) [ص : 26] فثبت أن هذا الذي نختاره أولى .
والثالثة : وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على
مدح داود عليه السلام وتعظيمه ، ومؤخرتها أيضا دالة على ذلك ، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال فلان عظيم
[ ص: 167 ] الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله ، يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة في أرضه وصوب أحكامه ، وكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ، ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب .
والرابعة : وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن
داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل
للخليل من الإلقاء في النار وحصل للذبيح من الذبح وحصل
ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب ، فأوحى الله إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا ، فعند ذلك سأل
داود عليه السلام الابتلاء ، فأوحى الله إليه أنك ستبتلى في يوم كذا ، فبالغ في الاحتراز ثم وقعت الواقعة ، فنقول : أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه ، فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة ، ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها آخرها .