المسألة الثالثة : (
بغى بعضنا على بعض ) أي تعدى وخرج عن الحد ، يقال بغى الجرح إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية ، ويقال : بغت المرأة إذا زنت ، لأن الزنا كبيرة منكرة ، قال تعالى : (
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) [النور : 33] ثم قال : (
فاحكم بيننا بالحق ) معنى الحكم إحكام الأمر في إمضاء تكليف الله عليهما في الواقعة ، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح ، ومنه بناء محكم إذا كان قويا ، وقوله : (
بالحق ) أي بالحكم الحق وهو الذي حكم الله به (
ولا تشطط ) يقال شط الرجل إذا بعد ، ومنه قوله : شطت الدار إذا بعدت ، قال تعالى : (
لقد قلنا إذا شططا ) [الكهف : 14] أي قولا بعيدا عن الحق ، فقوله : (
ولا تشطط ) أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق ، ثم قال : (
واهدنا إلى سواء الصراط ) وسواء الصراط هو وسطه ، قال تعالى : (
فاطلع فرآه في سواء الجحيم ) [الصافات : 55] ووسط الشيء أفضله وأعدله ، قال تعالى : (
وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [البقرة : 143] وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات :
أولها : قولهم فاحكم بالحق .
وثانيها : قولهم : (
ولا تشطط ) وهي نهي عن الباطل .
وثالثها : قولهم : (
واهدنا إلى سواء الصراط ) يعني يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق . وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق ، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب ، واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل ، فقال : (
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " (
أخي ) بدل من هذا أو خبر لقوله : (
إن ) والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة ، لقوله تعالى : (
وإن كثيرا من الخلطاء ) وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء .
المسألة الثانية : قال صاحب " الكشاف " قرئ " تسع وتسعون " بفتح التاء و" نعجة " بكسر النون ، وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع ، ولقوة ولقوة وهي الأنثى من العقبان .
المسألة الثالثة : قال
الليث : النعجة الأنثى من الضأن والبقرة الوحشية والشاة الجبلية ، والجمع النعجات ، والعرب جرت عادتهم بجعل النعجة والظبية كناية عن المرأة .
المسألة الرابعة : قرأ
عبد الله : "تسع وتسعون نعجة أنثى" وهذا يكون لأجل التأكيد كقوله تعالى : (
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ) [ النحل : 51 ] ، ثم قال : (
أكفلنيها وعزني في الخطاب ) قال
[ ص: 172 ] صاحب " الكشاف " : (
أكفلنيها ) حقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي (
وعزني ) غلبني ، يقال عزه يعزه ، والمعنى جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أورده به ، وقرئ وعازني من المعازة ، وهي المغالبة ، واعلم أن الذين قالوا إن هذين
الخصمين كانا من الملائكة زعموا أن المقصود من ذكر النعاج التمثيل ، لأن
داود كان تحته تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ، فذكرت الملائكة تلك الواقعة على سبيل الرمز والتمثيل .
ثم قال تعالى : (
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) أي : سؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه ، وروي أنه قال له : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا ، وأشار إلى الأنف والجبهة ، فقال : يا
داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا ، وأنت فعلت كيت وكيت ، ثم نظر
داود فلم ير أحدا فعرف الحال ، فإن قيل
كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرد قول خصمه ؟ قلنا : ذكروا فيه وجوها :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13114محمد بن إسحاق : لما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر
داود إلى الخصم الذي لم يتكلم ، وقال لئن صدق لقد ظلمته ، والحاصل أن هذا الحكم كان مشروطا بشرط كونه صادقا في دعواه .
والثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : لما ادعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم
داود عليه السلام ولم يذكر الله تعالى ذلك الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه ، كما تقول : أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتجرت فكسبت ، وقال تعالى : (
أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) [الشعراء : 63] أي فضرب فانفلق .
والثالث : أن يكون التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه يكون قد ظلمك .
ثم قال تعالى : (
وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ) قال
الليث : خليط الرجل مخالطه ، وقال
الزجاج : الخلطاء الشركاء ،
فإن قيل : لم خص داود الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قد يفعلون ذلك ؟ والجواب : لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة ، وذلك لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أحوال الآخر ، فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه ، فيفضي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة ، فلهذا السبب خص
داود عليه السلام الخلطاء بزيادة البغي والعدوان ، ثم استثنى عن هذا الحكم الذين آمنوا وعلموا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروحانية الحقيقية ، فلا جرم مخالطتهم لا توجب المنازعة ، وأما الذين تكون مخالطتهم لأجل حب الدنيا لا بد وأن تصير مخالتطهم سببا لمزيد البغي والعدوان ، واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض ، فلو كان
داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى
داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ومعلوم أن ذلك باطل ، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة
داود قوله باطل .