ثم قال تعالى : (
فطفق مسحا بالسوق والأعناق ) أي فجعل
سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها ، قال الأكثرون معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها أي قطعها ، قالوا إنه عليه السلام لما فاتته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى ، وعندي أن هذا أيضا بعيد ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه لو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله : (
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ) [المائدة : 6] قطعها ، وهذا مما لا يقوله عاقل ، بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق ، أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم البتة من المسح العقر والذبح .
الثاني : القائلون بهذا القول جمعوا على
سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة .
فأولها : ترك الصلاة .
وثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة ، وقال صلى الله عليه وسلم :
حب الدنيا رأس كل خطيئة .
وثالثها :
[ ص: 180 ] أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة .
ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : (
ردوها علي ) وهذه كلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس .
وخامسها : أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "
نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله " ، فهذه
أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها .
وسادسها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله : (
وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى
لمحمد صلى الله عليه وسلم : اصبر يا
محمد على سفاهتهم (
واذكر عبدنا داود ) وذكر قصة
داود ، ثم ذكر عقبيهما قصة
سليمان ، وكان التقدير أنه تعالى قال
لمحمد عليه السلام : اصبر يا
محمد على ما يقولون واذكر عبدنا
سليمان ، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا : إن
سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة ، وصبر على طاعة الله ، وأعرض عن الشهوات واللذات ، فأما لو كان المقصود من قصة
سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر هذه القصة لائقا بهذا الموضع ، فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على هذه الأقوال الفاسدة بالرد والإفساد والإبطال ، بل التفسير المطابق للحق لألفاظ القرآن ، والصواب أن نقول : إن
رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين
محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إن
سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه ، وهو المراد من قوله (
عن ذكر ربي ) ، ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ، ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ، والغرض من ذلك المسح أمور .
الأول : تشريفا لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو .
الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه .
الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض ، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا ، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات ، وأقول : أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها ، وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة ، فإن قيل : فالجمهور فسروا الآية بذلك الوجه ، فما قولك فيه ؟ فنقول لنا ههنا مقامان :
المقام الأول : أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها ، وقد ظهر والحمد لله أن الأمر كما ذكرناه ، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه .
المقام الثاني : أن يقال هب أن لفظ الآية لا يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس ، فما قولك فيه ؟ وجوابنا : أن الدلالة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية ، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالى بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم ، والله أعلم .