صفحة جزء
ثم قال : ( فاعبد الله مخلصا له الدين ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى لما بين في قوله : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب - أردف هنا بعض ما فيه من الحق والصدق ، وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ، ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية ، فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى : ( فاعبد الله مخلصا ) ، وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله : ( ألا لله الدين الخالص ) ، لأن قوله : ( ألا لله ) يفيد الحصر ، ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور ، واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي ، وأن الإخلاص ما هو ، وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي ، فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها :

أما العبادة : فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ، ويؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله .

وأما الإخلاص : فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والامتثال ، فإن حصل منه داع آخر ، فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحا على الجانب الآخر ، أو معادلا له أو مرجوحا . وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط ، وأما إذا كان الداعي إلى طاعة الله راجحا على الجانب الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أم لا ، وقد ذكرنا هذه المسألة مرارا ، ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص ، لأن قوله : ( فاعبد الله مخلصا ) صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص ، وتأكد هذا بقوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) [ البينة : 5 ] .

وأما بيان الوجوه المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك ، وهي أقسام :

أحدها : أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل .

وثانيها : أن يكون مقصوده من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار .

وثالثها : أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيرا في إيجاب الثواب أو دفع العقاب .

ورابعها : وهو أن يخلص الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة ، وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة .

المسألة الثانية : من الناس من قال : ( فاعبد الله مخلصا له الدين ) المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله ، واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا إله إلا الله " حصني ، ومن دخل حصني أمن من عذابي وهذا قول من يقول : لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر ، وأما الأكثرون فقالوا : الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي ، وهذا الأولى ؛ لأن قوله : ( فاعبد الله ) عام ، وروي أن امرأة الفرزدق لما قرب وفاتها أوصت أن يصلي الحسن البصري عليها ، فلما صلى عليها ودفنت ، قال للفرزدق : يا أبا فراس ، ما الذي أعددت لهذا الأمر ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، فقال الحسن رضي الله عنه : هذا العمود فأين الطنب ؟

[ ص: 210 ] فبين بهذا أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة ، قال القاضي : فأما ما يروى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ وأبي الدرداء : وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء فإن صح فإنه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة ، وإلا لم يجز قبول هذا الخبر ، لأنه مخالف للقرآن ، ولأنه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجورا عن الزنا والسرقة ، وأن لا يكون متعديا بفعلهما ، لأنه مع شدة شهوته للقبيح يعلم أنه لا يضره مع تمسكه بالشهادتين ، فكأن ذلك إغراء بالقبيح ، لأنا نقول : إن من اعتقد أن ضرره يزول بالتوبة فقد اعتقد أن فعل القبيح مضرة ، إلا أنه يزيل ذلك الضرر بفعل التوبة بخلاف قول من يقول : إن فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين . هذا تمام كلام القاضي ، فيقال له : أما قولك : إن القول بالمغفرة مخالف للقرآن ، فليس كذلك ، بل القرآن يدل عليه ، قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] ، وقال : ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) [ الرعد : 6 ] أي : حال ظلمهم ، كما يقال : رأيت الأمير على أكله وشربه ، أي : حال كونه آكلا وشاربا ، وقال : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) [ الزمر : 53 ] ، وأما قوله : إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح ، فيقال له : إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلا ، وهذا مذهب البغداديين من المعتزلة ، وأنت لا تقول به ، لأن مذهب البصريين أن عذاب المذنب جائز عقلا ، وأيضا فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة ، لأنه إذا علم أنه إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر ، وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد ، لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضره ذلك الذنب ألبتة .

ثم نقول : مذهبنا أنا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة ، فأما في حق كل واحد من الناس فذلك مشكوك فيه ، لأنه تعالى قال : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] فقطع بحصول المغفرة في الجملة ، إلا أنه سبحانه وتعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد ، بل في حق من شاء ، وإذا كان كذلك كان الخوف حاصلا ، فلا يكون الإغراء حاصلا ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " : قرئ " الدين " بالرفع ، ثم قال : وحق من رفعه أن يقرأ " مخلصا " بفتح اللام ، لقوله تعالى : ( وأخلصوا دينهم لله ) [ النساء : 146 ] حتى يطابق قوله : ( ألا لله الدين الخالص ) والخالص والمخلص واحد ، إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي ، كقولهم : شعر شاعر .

واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد - أردفه بذم طريقة المشركين ، فقال : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ، وتقدير الكلام : والذين اتخذوا من دونه أولياء ، يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، وعلى هذا التقدير فخبر " الذين " محذوف ، وهو قوله " يقولون " ، واعلم أن الضمير في قوله : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله ، وهي قسمان : العقلاء وغير العقلاء ، أما العقلاء فهو أن قوما عبدوا المسيح وعزيزا والملائكة ، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ، ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة ، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام ، إذا عرفت هذا ، فنقول : الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء ، أما بغير العقلاء فلا يليق ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن الضمير في قوله : ( ما نعبدهم ) ضمير للعقلاء ، فلا يليق بالأصنام .

الثاني : أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار أنها تقربه إلى الله ، وعلى هذا التقدير فمرادهم أن [ ص: 211 ] عبادتهم لها تقربهم إلى الله ، ويمكن أن يقال : إن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر ، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية ، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورا لها .

وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا : إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر ، لكن اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله ، مثل الكواكب ، ومثل الأرواح السماوية ، ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر ، فهذا هو المراد من قولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) .

واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه :

الأول : أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد ، فقال : ( إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون ) ، واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهبا باطلا وكان مصرا عليه ، فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن قلبه ، فإذا زال الإصرار عن قلبه ، فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه ، فيكون هذا الطريق أفضى إلى المقصود ، والأطباء يقولون : لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل ، فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال ، فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام ، فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولا يجري مجرى سقي المنضج أولا ، وإسماع الدليل ثانيا يجري مجرى سقي المسهل ثانيا ، فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد .

التالي السابق


الخدمات العلمية