وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية ، وهذه العلوم هي رأس المال ، والنظر والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية ، فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأس المال ، وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء ، وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح ، وأيضا حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال ، واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال ، وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح ، إذا ثبت هذا فنقول : إن من
أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن ، ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محروما عن الربح بالكلية ، وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية ، فكان ذلك خسرانا ، فهذا بيان كونه خسرانا .
وأما الثاني : وهو بيان كون ذلك الخسران مبينا ، فهو أن من لم يربح الزيادة ، ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار ، فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضا مزيد ضرر ، أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات ، وتقوية الجهالات والضلالات ، واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد ، فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة :
أولها : أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلبا في تلك العقائد الباطلة ، والأعمال الفاسدة .
[ ص: 224 ] وثانيها : أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة .
وثالثها : أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسبابا للعقوبة الشديدة ، والبلاء العظيم بعد الموت . وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم ، ولا حرمان أعظم من حرمانهم ، ونعوذ بالله منه .
ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم ، بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران ، بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد ، فقال : (
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب ، ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة الجهل والحرمان والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان ، فإن قيل : الظلل ما على الإنسان ، فكيف سمي ما تحته بالظلل ؟ والجواب من وجوه :
الأول : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر ، كقوله : (
وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] .
الثاني : أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته ، لأن النار دركات كما أن الجنة درجات .
والثالث : أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة .
قال
الحسن : هم بين طبقتين من النار ، لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) [ العنكبوت : 55 ] ، وقوله تعالى : (
لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) [ الأعراف : 41 ] .
ثم قال تعالى : (
ذلك يخوف الله به عباده ) أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب ، فقوله : (
ذلك ) مبتدأ ، وقوله : (
يخوف الله به عباده ) خبر ، وفي قوله : (
يخوف الله به عباده ) قولان :
الأول : التقدير : ذلك
العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين ، لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان ، وإنما كان تخويفا للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة .
الوجه الثاني : أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال ، لأنه يقال : إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء ، فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم ، وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال ، فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف ، والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع من العذاب في الوجود ؛ تحصيلا لذلك المطلوب الذي هو التكليف ، والوجه الأول عندي أقرب ، والدليل عليه أنه قال بعده : (
ياعباد فاتقون ) ، وقوله : (
ياعباد ) الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون ، فكأنه قيل : المقصود من
شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين ، فيا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى .