واعلم أنه تعالى حكم على
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال : (
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) وفي ذلك دقيقة عجيبة ، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث ، ولا بد له من فاعل وقابل ، أما الفاعل فهو الله سبحانه ، وهو المراد من قوله : (
أولئك الذين هداهم الله ) وأما القابل فإليه الإشارة بقوله : (
وأولئك هم أولو الألباب ) فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه ، وإنما قلنا : إن الفاعل لهذه الهداية هو الله ، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق ، والاعتقاد الباطل ، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين ، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية ، امتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر ، فإن قالوا : لا نقول : إن ذات النفس والعقل توجب هذا الرجحان ، بل نقول : إنه يريد تحصيل أحد الطرفين ، فتصير تلك الإرادة سببا لذلك الرجحان ، فنقول : هذا باطل ، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة ، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة ، فيمتنع كون جوهر النفس سببا لتلك الإرادة ، فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل .
أما الفاعل : فيمتنع أن يكون هو النفس ، بل الفاعل هو الله تعالى ، وأما القابل : فهو جوهر النفس ، فلهذا السبب قال : (
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) ثم قال : (
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ) ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في لفظ الآية سؤال ، وهو أنه يقال : إنه قال : (
أفمن حق عليه كلمة العذاب ) ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الاسم وعلى الخبر معا ، فلا يقال : أزيد أتقتله ، بل ههنا شيء آخر ، وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء ، فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معا ، وهو قوله : (
أفمن حق ) ، (
أفأنت تنقذ ) ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوها :
الأول : قال
الكسائي : الآية جملتان ، والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب ، أفأنت تحميه ، أفأنت تنقذ من في النار .
الثاني : قال صاحب " الكشاف " : أصل الكلام : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ، وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه
[ ص: 229 ] الخطاب ، والتقدير : أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع " من في النار " موضع الضمير ، والآية على هذا جملة واحدة .
الثالث : لا يبعد أن يقال : إن حرف الاستفهام إنما ورد ههنا لإفادة معنى الإنكار ، ولما كان استنكاره هذا المعنى كاملا تاما ، لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء ، تنبيها على المبالغة التامة في ذلك الإنكار .
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال ، وذلك لأنه تعالى قال : (
أفمن حق عليه كلمة العذاب ) فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة ، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وانقلاب علمه جهلا ، وهو محال .
والوجه الثاني في الاستدلال بالآية : أنه تعالى حكم بأن
حقية كلمة العذاب توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه ، ولو كان ذلك ممكنا ، ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه ، لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى .
المسألة الثالثة : احتج القاضي بهذه الآية على أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع لأهل الكبائر ، قال : لأنه حق عليهم العذاب ، فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار ، وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد ، فيقال له : لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب ، وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال : (
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] ومع قوله : (
إن الله يغفر الذنوب جميعا ) [ الزمر : 53 ] ، والله أعلم .
النوع الثاني : من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى : (
لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية ) وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار (
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) ، فإن قيل : ما معنى قوله : (
مبنية ) ؟ قلنا : لأن المنزل إذا بني على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني ، فقوله : (
مبنية ) معناه : أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل ، والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة ، أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ، ونقصانه الرخاوة والسخافة ، وأما التحتاني فبالضد منه ، أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل ، وهي عالية مرتفعة ، وتكون في غاية القوة والشدة ، وقال حكماء الإسلام : هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض ، مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية ، فإن بعضها يكون مبنيا على البعض ، والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة ، بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية .
ثم قال : (
تجري من تحتها الأنهار ) وذلك معلوم ، ثم ختم الكلام فقال : (
وعد الله لا يخلف الله الميعاد ) ، فقوله : (
وعد الله ) مصدر مؤكد ، لأن قوله (
لهم غرف ) في معنى : وعدهم الله ذلك ، وفي الآية دقيقة شريفة ، وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله ، وأنه لا يخلف وعده ، ولم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد والتقوية ، وذلك يدل على أن
جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله
المعتزلة ، فإن قالوا : أليس أنه قال في جانب الوعيد : (
ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) [ ق : 29 ] قلنا : قوله : (
ما يبدل القول لدي ) ليس تصريحا بجانب الوعيد ، بل هو كلام عام يتناول القسمين ، أعني الوعد والوعيد ، فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق ، والله أعلم .
[ ص: 230 ]