[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
(
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين )
قوله تعالى : (
قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين )
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بشرح
كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق العبيد وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر ، فقالوا : إنا بينا في هذا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص العباد بالمؤمنين ، قال تعالى : (
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا )
[ ص: 4 ] [الفرقان : 63] وقال : (
عينا يشرب بها عباد الله ) [الإنسان : 6] ولأن لفظ العباد مذكور في معرض التعظيم ، فوجب أن لا يقع إلا على المؤمنين ، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله (
ياعبادي ) مختص بالمؤمنين ، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله ، أما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات والعزى وعبد المسيح ، فثبت أن قوله : (
ياعبادي ) لا يليق إلا بالمؤمنين ، إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قال : (
الذين أسرفوا على أنفسهم ) وهذا عام في حق جميع المسرفين .
ثم قال تعالى : (
إن الله يغفر الذنوب جميعا ) وهذا يقتضي كونه غافرا لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين ، وذلك هو المقصود ، فإن قيل : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها ، وإلا لزم القطع بكون
الذنوب مغفورة قطعا ، وأنتم لا تقولون به ، فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به ، والذي تقولون به لا تدل عليه هذه الآية ، فسقط الاستدلال ، وأيضا إنه تعالى قال عقيب هذه الآية : (
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ) إلى قوله : (
بغتة وأنتم لا تشعرون ) ولو كان المراد من أول الآية أنه تعالى غفر جميع الذنوب قطعا لما أمر عقيبه بالتوبة ، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون ، وأيضا قال : (
أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ) ولو كانت الذنوب كلها مغفورة ، فأي حاجة به إلى أن يقول : (
أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ) ؟ وأيضا فلو كان المراد ما يدل عليه ظاهر لفظ الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي وإطلاقا في الإقدام عليها ، وذلك لا يليق بحكمة الله ، وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن يقال : المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب البتة ، فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله ، إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة ، فمعنى قوله : (
إن الله يغفر الذنوب جميعا ) أي بالتوبة والإنابة .
والجواب : قوله الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعا وأنتم لا تقولون به ، قلنا : بل نحن نقول به ونذهب إليه ، وذلك لأن صيغة (
يغفر ) صيغة المضارع ، وهي للاستقبال ، وعندنا أن
الله تعالى يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعا ، إما قبل الدخول في نار جهنم ، وإما بعد الدخول فيها ، فثبت أن ما يدل عليه ظاهر الآية فهو عين مذهبنا .
أما قوله : لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة ، فالجواب أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم ، فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية ، بل نقول : لعله يعفو مطلقا ، ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك ، وبهذا الحرف يخرج الجواب عن بقية الأسئلة . والله أعلم .
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه
الأول : أنه سمى المذنب بالعبد ، والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة ، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج .
الثاني : أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال : (
ياعبادي الذين أسرفوا ) وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب .
الثالث : أنه تعالى قال : (
أسرفوا على أنفسهم ) ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما
[ ص: 5 ] عاد إليه بل هو عائد إليهم ، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم ، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم .
الرابع : أنه قال : (
لا تقنطوا من رحمة الله ) نهاهم عن القنوط ، فيكون هذا أمرا بالرجاء ، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم .
الخامس : أنه تعالى قال أولا : (
ياعبادي ) وكان الأليق أن يقول : لا تقنطوا من رحمتي ، لكنه ترك هذا اللفظ وقال : (
لا تقنطوا من رحمة الله ) لأن قولنا : (
الله ) أعظم أسماء الله وأجلها ، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل .
السادس : أنه لما قال : (
لا تقنطوا من رحمة الله ) كان الواجب أن يقول : إنه يغفر الذنوب جميعا ، ولكنه لم يقل ذلك ، بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة " إن " المفيدة لأعظم وجوه التأكيد ، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمة .
السابع : أنه لو قال : (
يغفر الذنوب ) لكان المقصود حاصلا ، لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال : (
جميعا ) وهذا أيضا من المؤكدات .
الثامن : أنه وصف نفسه بكونه غفورا ، ولفظ الغفور يفيد المبالغة .
التاسع : أنه وصف نفسه بكونه رحيما والرحمة تفيد فائدة على المغفرة ، فكان قوله : (
إنه هو الغفور الرحيم ) إشارة إلى إزالة موجبات العقاب ، وقوله : (
الرحيم ) إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب .
العاشر : أن قوله : (
إنه هو الغفور الرحيم ) يفيد الحصر ، ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو ، وذلك يفيد
الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة ، فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية ، وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران ، ونسأل الله تعالى الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته .