(
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون )
قوله تعالى : (
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون )
اعلم أن هذا من نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد ، أما الوعيد فقوله تعالى : (
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) وفيه بحثان ، أحدهما : أن هذا التكذيب كيف هو؟ والثاني : أن هذا السواد كيف هو؟
البحث الأول : عن حقيقة هذا التكذيب ، فنقول : المشهور أن
الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، ومنهم من قال : هذا القدر لا يكون كذبا بل الشرط في كونه كذبا أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه ، إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية :
قال
الكعبي : ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله : (
لو أن الله هداني ) يعني أنه ما هداني بل أضلني ، فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه (
ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) وجب أن يكون هذا عائدا إلى ذلك الكلام المتقدم ، ثم روي عن
الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
ما بال أقوام يصلون ويقرءون القرآن ، يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد ، وهم كذبة على الله ، والله مسود وجوههم " . واعلم أن أصحابنا قالوا : آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل ؛ لأنه تعالى قال في آخر الآية : (
أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ) وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون ، والتكبر لا يليق بمن يقول : أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد ، وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى ، أما الذين يقولون : إن الله يريد شيئا وأنا أريد بضده ، فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله ، فالتكبر بهذا القائل أليق ، فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد ، ومن الناس من قال : إن هذا الوعيد مختص
باليهود والنصارى ، ومنهم من قال :
[ ص: 9 ] إنه مختص بمشركي العرب ، قال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة ، وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا ، فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه ، فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية ; لأنهم كذبوا على الله ، فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو
اليهود والنصارى لا يجوز ، واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي لزمه تكفير الأمة ; لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى ، ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين
أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى ، ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما ، فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول ، ومثال هذا
كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات ، وكانوا يقولون : إن الله تعالى حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا ، وكان قائله عالما بأنه كذب ، وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل يكون مناسبا ، أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ ، يبعد إلحاق هذا الوعيد به .
البحث الثاني : الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم ، والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد ، وهو سواد يدل على الجهل بالله
والكذب على الله ، وأقول : إن الجهل ظلمة ، والظلمة تتخيل كأنها سواد ، فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم ، وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة ، فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال : (
وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) الآية ، قال القاضي : المراد به من اتقى كل الكبائر ؛ إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله ، فيقال له : أمرك عجيب جدا فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى : (
لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) وجب أن يحمل قوله : (
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) على الذين قالوا : (
لو أن الله هداني ) فعلى هذا القانون لما تقدم قوله : (
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) ثم قال تعالى بعده : (
وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب ، فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنه يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله : (
وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) وأن يكون قولك : (
الذين اتقوا ) المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسدا ، فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة ، بل الحق أن تقول : المتقي هو الآتي بالاتقاء ، والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء ، وبهذا الحرف قلنا : الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره ، وهذا هو الكذب على الله تعالى ، فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم .
ثم قال تعالى : (
بمفازتهم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
حمزة والكسائي وأبو بكر عن
عاصم "بمفازاتهم" على الجمع ، والباقون بمفازتهم على التوحيد ، وحكى
الواحدي عن
الفراء أنه قال : كلاهما صواب ; إذ يقال في الكلام : قد تبين أمر القوم ،
[ ص: 10 ] وأمور القوم ، قال
أبو علي الفارسي : الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها ، كقوله تعالى : (
وتظنون بالله الظنون ) [الأحزاب : 10] ولا شك أن لكل متق نوعا آخر من المفازة .
المسألة الثانية : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة ، فكأن المعنى أن
النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات ، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها .
ثم قال : (
لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ) والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة ، كأنه قيل : كيف ينجيهم؟ فقيل : (
لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ) وهذه كلمة جامعة ; لأنه إذا علم أنه لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قلبه بسبب فوات الماضي ، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات ، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه .
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن
المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة ، وتأكد هذا بقوله : (
لا يحزنهم الفزع الأكبر ) .