ثم قال تعالى : (
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
ابن عامر (تأمرونني) بنونين ساكنة الياء ، وكذلك هي في مصاحف
الشام ، قال
الواحدي : وهو الأصل ، وقرأ
ابن كثير (تأمروني) بنون مشددة على إسكان الأولى وإدغامها في الثانية ، وقرأ
نافع (تأمروني) بنون واحدة خفيفة ، على حذف إحدى النونين ، والباقون بنون واحدة مكسورة مشددة .
المسألة الثانية : (
أفغير الله ) منصوب بأعبد ، و (
تأمروني ) اعتراض ، ومعناه : أفغير الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون : أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، وأقول : نظير هذه الآية ، قوله تعالى : (
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ) [الأنعام : 14] وقد ذكرنا في تلك الآية وجه الحكمة في تقديم الفعل .
المسألة الثالثة : إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقا للأشياء وبكونه مالكا لمقاليد السماوات والأرض ، وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع ،
ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة ، واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة ، فقد بلغ في الجهل مبلغا لا مزيد عليه ، فلهذا السبب قال : (
أيها الجاهلون ) ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع .
ثم قال تعالى : (
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) واعلم أن الكلام التام مع الدلائل القوية والجواب عن الشبهات في مسألة الإحباط قد ذكرناه في سورة البقرة فلا نعيده ، قال صاحب "الكشاف" : قرئ "ليحبطن عملك" على البناء للمفعول وقرئ بالياء والنون ؛ أي : ليحبطن الله ، أو الشرك ، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟ والجواب : تقدير الآية : أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإلى الذين من قبلك مثله . أو أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت ، كما تقول : كسانا حلة ؛ أي كل واحد منا .
السؤال الثاني :
ما الفرق بين اللامين؟ الجواب : الأولى موطئة للقسم المحذوف ، والثانية : لام الجواب .
السؤال الثالث : كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ والجواب : أن قوله : (
لئن أشركت ليحبطن عملك ) قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها ، ألا ترى أن قولك : لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين ، قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق ، قال الله تعالى : (
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [الأنبياء : 22] ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وبأنهما قد فسدتا .
السؤال الرابع : ما
معنى قوله : ( ولتكونن من الخاسرين ) ؟ والجواب : كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم ، فكذلك القبائح التي تصدر عنهم ؛ فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح ؛ لقوله تعالى : (
إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) [الإسراء : 75] فكان المعنى ضعف الشرك الحاصل منه ، وبتقدير حصوله منه يكون تأثيره في جانب غضب الله أقوى وأعظم .
[ ص: 13 ] واعلم أنه تعالى لما قدم هذه المقدمات ذكر ما هو المقصود فقال : (
بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) ، والمقصود منه ما أمروه به من الإسلام ببعض آلهتهم ، كأنه قال : إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلا غير الله ; لأن قوله (
قل أفغير الله تأمروني أعبد ) يفيد أنهم عينوا عليه عبادة غير الله ، فقال الله : إنهم بئسما قالوا ، ولكن أنت على الضد مما قالوا ، فلا تعبد إلا الله ، وذلك لأن قوله : (
بل الله فاعبد ) يفيد الحصر . ثم قال : (
وكن من الشاكرين ) على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلا عبادة الإله القادر على الإطلاق العليم الحكيم ، وعلى ما أرشدك إلى أنه
يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله .