الصفة الثالثة : قوله (
شديد العقاب ) وفيه مباحث :
البحث الأول : في هذه الآية سؤال وهو أن قوله : (
شديد العقاب ) يصلح أن يكون نعتا للنكرة ولا يصلح أن يكون نعتا للمعرفة ، تقول : مررت برجل شديد البطش ، ولا تقول مررت بعبد الله شديد البطش ، وقوله : (الله) اسم علم ، فيكون معرفة ، فكيف يجوز وصفه بكونه شديد العقاب مع أنه لا يصلح إلا أن يجعل وصفا للنكرة؟ قالوا : وهذا بخلاف قولنا : غافر الذنب وقابل التوب ; لأنه ليس المراد منهما حدوث هذين الفعلين ، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوبة الآن أو غدا ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش ، وأما (
شديد العقاب ) فمشكل ; لأنه في تقدير : شديد عقابه ، فيكون نكرة ، فلا يصح جعله صفة للمعرفة ، وهذا تقرير السؤال وأجيب عنه بوجوه :
الأول : أن هذه الصفة وإن كانت نكرة إلا أنها لما ذكرت مع سائر الصفات التي هي معارف حسن ذكرها كما في قوله : (
وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد ) [البروج : 14- 16] .
والثاني : قال
الزجاج : إن خفض (
شديد العقاب ) على البدل ; لأن جعل النكرة بدلا من المعرفة وبالعكس أمر جائز ، واعترضوا عليه بأن جعله وحده بدلا من الصفات فيه نبوة ظاهرة .
الثالث : أنه لا نزاع في أن قوله : (
غافر الذنب وقابل التوب ) يحسن جعلهما صفة ، وإنما كان كذلك لأنهما مفيدان معنى الدوام والاستمرار ، فكذلك قوله : (
شديد العقاب ) يفيد معنى الدوام والاستمرار ; لأن
صفات الله تعالى منزهة عن الحدوث والتجدد ، فكونه شديد العقاب معناه كونه بحيث يشتد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبدا ، وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن كذلك ، فهذا ما قيل في هذا الباب .
البحث الثاني : هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل ; لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه
[ ص: 26 ] بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب ، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب ، وذكر بعده ما يدل على
حصول الرحمة العظيمة ، وهو قوله : (
ذي الطول ) ، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقا بتينك الصفتين وملحوقا بهذه الصفة ، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح .
البحث الثالث : لقائل أن يقول : ذكر الواو في قوله : (
غافر الذنب وقابل التوب ) ولم يذكرها في قوله : (
شديد العقاب ) فما الفرق؟ قلنا : إنه لو لم يذكر الواو في قوله : (
غافر الذنب وقابل التوب ) لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلا كونه قابل التوب ، أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال ; لأن عطف الشيء على نفسه محال ، أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه (
غافر الذنب وقابل التوب ) فاستغنى به عن ذكر الواو .
الصفة الرابعة : (
ذي الطول ) أي ذي التفضل ، يقال : طال علينا طولا ؛ أي تفضل علينا تفضلا ، ومن كلامهم : طل علي بفضلك ، ومنه قوله تعالى : (
أولو الطول منهم ) [التوبة : 86] ومضى تفسيره عند قوله : (
ومن لم يستطع منكم طولا ) [النساء : 25] واعلم أنه لما وصف نفسه بكونه (
شديد العقاب ) لا بد وأن يكون المراد بكونه تعالى آتيا بالعقاب الشديد الذي لا يقبح منه إتيانه به ، بل
لا يجوز وصفه تعالى بكونه آتيا لفعل القبيح ، وإذا ثبت هذا فنقول : ذكر بعده كونه ذا الطول وهو كونه ذا الفضل ، فيجب أن يكون معناه كونه ذا الفضل بسبب أن يترك العقاب الذي له أن يفعله ; لأنه ذكر كونه ذا الطول ولم يبين أنه ذو الطول في ماذا ، فوجب صرفه إلى كونه ذا الطول في الأمر الذي سبق ذكره ، وهو فعل العقاب الحسن دفعا للإجمال ، وهذا يدل على أنه تعالى قد يترك العقاب الذي حسن منه تعالى فعله ، وذلك يدل على أن
العفو عن أصحاب الكبائر جائز ، وهو المطلوب .
الصفة الخامسة :
التوحيد المطلق وهو قوله : (
لا إله إلا هو ) والمعنى أنه وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل ، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، أما إذا كان واحدا وليس له شريك ولا شبيه كانت الحاجة إلى الإقرار بعبوديته شديدة ، فكان الترغيب والترهيب الكاملان يحصلان بسبب هذا التوحيد .
الصفة السادسة : قوله : (
إليه المصير ) وهذه الصفة أيضا مما يقوي الرغبة في الإقرار بعبوديته ; لأنه بتقدير أن يكون موصوفا بصفات الفضل والكرم وكان واحدا لا شريك له ، إلا أن القول بالحشر والنشر إن كان باطلا لم يكن الخوف الشديد حاصلا من عصيانه ، أما لما كان القول بالحشر والقيامة حاصلا كان الخوف أشد والحذر أكمل ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الصفات ، واحتج أهل التشبيه بلفظة ( إلى ) وقالوا : إنها تفيد انتهاء الغاية ، والجواب عنه مذكور في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .