واعلم أنه تعالى حكى عن
حملة العرش ، وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء :
النوع الأول قوله : (
يسبحون بحمد ربهم ) ونظيره قوله حكاية عن الملائكة : (
ونحن نسبح بحمدك ) [البقرة : 30] وقوله تعالى : (
وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ) فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي ، والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق ، فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام ، فقوله : (
يسبحون بحمد ربهم ) قريب من قوله : (
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) [الرحمن : 78] .
النوع الثاني مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى : (
ويؤمنون به ) فإن قيل : فأي فائدة في قوله : (
ويؤمنون به ) فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله؟ قلنا : الفائدة فيه ما ذكره صاحب "الكشاف" ، وقد أحسن فيه جدا فقال : إن المقصود منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه ، ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح والثناء ; لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء ، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء ، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم ، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك ، ورحم الله صاحب "الكشاف" فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرا وشرفا .
النوع الثالث مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى : (
ويستغفرون للذين آمنوا ) اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة على خلق الله فقوله : (
يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ) مشعر بالتعظيم لأمر الله وقوله :
[ ص: 30 ] (
ويستغفرون للذين آمنوا ) مشعر بالشفقة على خلق الله .
ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج كثير من العلماء بهذه الآية في إثبات أن
الملك أفضل من البشر ، قالوا : لأن هذه الآية تدل على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله بالثناء والتقديس اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون ، وهذا يدل على أنهم مستغنون عن الاستغفار لأنفسهم ؛ إذ لو كانوا محتاجين إليه لقدموا الاستغفار لأنفسهم على الاستغفار لغيرهم ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013658ابدأ بنفسك " وأيضا قال تعالى
لمحمد صلى الله عليه وسلم : (
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) [محمد : 19] فأمر
محمدا أن يذكر أولا الاستغفار لنفسه ، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره ، وحكى عن
نوح عليه السلام أنه قال : (
رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ) [نوح : 28] وهذا يدل على أن كل من كان محتاجا إلى الاستغفار فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره ، فالملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لكان اشتغالهم بالاستغفار لأنفسهم مقدما على اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم ، ولما لم يذكر الله تعالى عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أن ذلك إنما كان لأنهم ما كانوا محتاجين إلى الاستغفار ، وأما الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا محتاجين إلى الاستغفار بدليل قوله تعالى
لمحمد عليه السلام : (
واستغفر لذنبك ) وإذا ثبت هذا فقد ظهر أن الملك أفضل من البشر . والله أعلم .
المسألة الثانية : احتج
الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين ، لا في إسقاط العقاب عن المذنبين ، قال : وذلك لأن الملائكة قالوا : (
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) قال : وليس المراد فاغفر للذين تابوا من الكفر ، سواء كان مصرا على الفسق أو لم يكن كذلك ; لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعا سبيل ربه ، ولا يطلق ذلك فيه ، وأيضا إن الملائكة يقولون : (
وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ) وهذا لا يليق بالفاسقين ; لأن خصومنا لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوزون ذلك ، فثبت أن شفاعة الملائكة لا تتناول إلا أهل الطاعة ، فوجب أن تكون شفاعة الأنبياء كذلك ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق ، والجواب أن نقول : هذه الآية تدل على
حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين ، فنبين هذا ثم نجيب عما ذكره
الكعبي ، أما بيان دلالة هذه الآية على ما قلناه فمن وجوه :
الأول : قوله : (
ويستغفرون للذين آمنوا )
والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب . أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفارا .
الثاني : قوله تعالى : (
ويستغفرون للذين آمنوا ) وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان ، فإذا دللنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة .
الثالث : قوله تعالى : (
فاغفر للذين تابوا ) طلب المغفرة للذين تابوا ، ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة ; لأن ذلك واجب على الله عند الخصم ، وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء قبيحا ، ولا يجوز أيضا أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر ; لأن ذلك أيضا واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء ، ولا يجوز أن يكون المراد طلب زيادة منفعة على الثواب ; لأن ذلك لا يسمى مغفرة ، فثبت أنه لا يمكن حمل قوله : (
فاغفر للذين تابوا ) إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة ، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق ، أما الذي يتمسك به
الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا ، فنقول : يجب أن
[ ص: 31 ] يكون المراد منه الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان ، وقوله : إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائبا ولا متبعا سبيل الله ، قلنا : لا نسلم قوله ، بل يقال : إنه تائب عن الكفر وتابع سبيل الله في الدين والشريعة ، وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب ، ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضاربا وضاحكا صدور الضرب والضحك عنه مرة واحدة ، ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه ، فكذا هاهنا .
المسألة الثالثة : قال أهل التحقيق : إن هذه
الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن زلة سبقت ، وذلك لأنهم قالوا في أول تخليق البشر : (
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [البقرة : 30] فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا : (
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ) وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره ، فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه .