(
إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير )
قوله تعالى : (
إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ) .
اعلم أنه تعالى لما عاد إلى شرح
أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله وهم الذين ذكرهم الله في قوله : (
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ) [غافر : 4] بين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم فقال : (
إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف وفيها أيضا تقديم وتأخير ، أما الحذف فتقديره لمقت الله إياكم ، وأما التقديم والتأخير فهو أن التقدير أن يقال : لمقت الله لكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، أكبر من مقتكم أنفسكم ، وفي تفسير مقتهم أنفسهم وجوه :
الأول : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا .
الثاني : أن
الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دعوهم إلى [ ص: 35 ] الكفر في الدنيا ، والرؤساء أيضا يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضا بأنهم مقتوا أنفسهم ، كما أنه تعالى قال : (
فاقتلوا أنفسكم ) [البقرة : 54] والمراد قتل بعضهم بعضا .
الثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله : (
وما كان لي عليكم من سلطان ) إلى قوله : (
ولوموا أنفسكم ) [إبراهيم : 22] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم .
واعلم أنه لا نزاع أن مقتهم أنفسهم إنما يحصل في يوم القيامة ، أما مقت الله لهم ففيه وجهان :
الأول : أنه حاصل في الآخرة ، والمعنى لمقت الله لكم في هذا الوقت أشد من مقتكم أنفسكم في هذا الوقت .
والثاني وعليه الأكثرون ، أن التقدير : لمقت الله لكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم الآن .
ففي تفسير الألفاظ المذكورة في الآية أوجه ; الأول : أن الذين ينادونهم ويذكرون لهم هذا الكلام هم خزنة جهنم . الثاني : المقت أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال ، فالمراد منه أبلغ الإنكار والزجر . الثالث : قال الفراء : (
ينادون لمقت الله ) معناه أنهم ينادون إن مقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتأتون بالكفر أكبر من مقتكم الآن أنفسكم .
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطاب (
قالوا ربنا أمتنا اثنتين ) إلى آخر الآية ، والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسدا باطلا ، تمنوا الرجوع إلى الدنيا لكي يشتغلوا عند الرجوع إليها بالأعمال الصالحة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج أكثر العلماء بهذه الآية في
إثبات عذاب القبر ، وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا : (
ربنا أمتنا اثنتين ) فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي يحصل عقيبها موتا ثانيا ، وذلك يدل على حصول حياة في القبر ، فإن قيل : قال كثير من المفسرين : الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة ، والموتة الثانية إشارة إلى ما حصل في الدنيا ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك ؟ والذي يدل على أن الأمر ما ذكرناه قوله تعالى : (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ) [البقرة : 28] والمراد من قوله : (
وكنتم أمواتا ) الحالة الحاصلة عند كونه نطفة وعلقة ، وتحقيق الكلام أن الإماتة تستعمل بمعنيين ; أحدهما : إيجاد الشيء ميتا . والثاني : تصيير الشيء ميتا بعد أن كان حيا ، كقولك : وسع الخياط ثوبي ، يحتمل أنه خاطه واسعا ، ويحتمل أنه صيره واسعا بعد أن كان ضيقا ، فلم لا يجوز في هذه الآية أن يكون المراد بالإماتة خلقها ميتة ، ولا يكون المراد تصييرها ميتة بعد أن كانت حية .
السؤال الثاني : أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة .
السؤال الثالث : أن هذه الآية تدل على المنع من حصول الحياة في القبر ، وبيانه أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات ، أولها في الدنيا . وثانيها في القبر . وثالثها في القيامة . والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط ، فتكون إحداهما الحياة في الدنيا والحياة الثانية في القيامة ، والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا .
[ ص: 36 ] السؤال الرابع : أنه إن دلت هذه الآية على حصول الحياة في القبر فهاهنا ما يدل على عدمه وذلك بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فمن وجوه :
الأول : قوله تعالى : (
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [الزمر : 9] فلم يذكر في هذه الآية إلا الحذر عن الآخرة ، ولو حصلت الحياة في القبر لكان الحذر عنها حاصلا ، ولو كان الأمر كذلك لذكره ، ولما لم يذكره علمنا أنه غير حاصل .
الثاني : أنه تعالى حكى في سورة الصافات عن المؤمنين المحقين أنهم يقولون بعد دخولهم في الجنة : (
أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ) [الصافات : 58] ولا شك أن
كلام أهل الجنة حق وصدق ، ولو حصلت لهم حياة في القبر لكانوا قد ماتوا موتتين ، وذلك على خلاف قوله : (
أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ) قالوا : والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية التي ذكرتموها ; لأن الآية التي تمسكنا بها حكاية قول المؤمنين الذين دخلوا الجنة ، والآية التي تمسكتم بها حكاية قول الكافرين الذين دخلوا النار .
وأما المعقول فمن وجوه :
الأول : وهو أن الذي افترسه السباع وأكلته لو أعيد حيا لكان إما أن يعاد حيا بمجموعه أو بآحاد أجزائه ، والأول باطل ; لأن الحس يدل على أنه لم يحصل له مجموع . والثاني باطل لأنه لما أكلته السباع ، فلو جعلت تلك الأجزاء أحياء لحصلت أحياء في معدة السباع وفي أمعائها ، وذلك في غاية الاستبعاد .
الثاني : أن الذي مات لو تركناه ظاهرا بحيث يراه كل واحد فإنهم يرونه باقيا على موته ، فلو جوزنا مع هذه الحالة أنه يقال : إنه صار حيا لكان هذا تشكيكا في المحسوسات ، وإنه دخول في السفسطة . والجواب : قوله : لم لا يجوز أن تكون الموتة الأولى هي الموتة التي كانت حاصلة حال ما كان نطفة وعلقة؟ فنقول : هذا لا يجوز ، وبيانه أن المذكور في الآية أن الله أماتهم ، ولفظ الإماتة مشروط بسبق حصول الحياة ; إذ لو كان الموت حاصلا قبل هذه الحالة امتنع كون هذا إماتة ، وإلا لزم تحصيل الحاصل وهو محال ، وهذا بخلاف قوله : (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ) [البقرة : 28] لأن المذكور في هذه الآية أنهم كانوا أمواتا وليس فيها أن الله أماتهم بخلاف الآية التي نحن في تفسيرها ; لأنها تدل على أن الله تعالى أماتهم مرتين ، وقد بينا أن لفظ الإماتة لا يصدق إلا عند سبق الحياة ، فظهر الفرق .