المسألة الثالثة : احتج أكثر
المعتزلة في نفي
الشفاعة عن المذنبين بقوله تعالى : (
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) قالوا : نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا يحصل لهم هذا الشفيع ، أجاب أصحابنا عنه من وجوه ؛ الأول : أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع ، وهذا لا يدل على نفي الشفيع ، ألا ترى أنك إذا قلت : ما عندي كتاب يباع ، فهذا يقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب ، وقالت العرب :
ولا ترى الضب بها ينجحر
ولفظ الطاعة يقتضي حصول المرتبة ، فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله ; لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالا من الله تعالى حتى يقال : إن الله يطيعه . الوجه الثاني في الجواب أن المراد من الظالمين هاهنا الكفار ، والدليل عليه أن هذه الآية وردت في زجر الكفار (
الذين يجادلون في آيات الله ) [غافر : 35] فوجب أن يكون مختصا بهم ، وعندنا أنه
لا شفاعة في حق الكفار . والثالث : أن لفظ الظالمين ، إما أن يفيد الاستغراق ، وإما أن لا يفيد ، فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم ، ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار ، وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع ; لأن بعض هذا المجموع هم الكفار وليس لهم شفيع ، فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع ، وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفا بهذه الصفة ، وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع وهم الكفار ، أجاب المستدلون عن السؤال الأول ، فقالوا : يجب حمل كلام الله تعالى على محمل مفيد ، وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله ; لأن المطيع أدون حالا من المطاع ، وليس في الوجود شيء أعلى مرتبة من الله تعالى حتى يقال : إن الله يطيعه ، وإذا كان هذا المعنى معلوما بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجا لها عن الفائدة ، فوجب حمل الطاعة على الإجابة ، والذي يدل على ورود لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قول الشاعر :
رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتا لم يطع
أما السؤال الثاني : فقد أجابوا عنه بأن لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم ، أقصى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكفار ; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
أما السؤال الثالث : فجوابه أن قوله : (
ما للظالمين من حميم ) يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع ، فهذا تمام كلام القوم في تقرير ذلك الاستدلال .
أجاب أصحابنا عن السؤال الأول فقالوا : إن القوم كانوا يقولون في الأصنام : إنها شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يقولون : إنها تشفع لنا عند الله من غير حاجة فيه إلى إذن الله ، ولهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله : (
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [البقرة : 255] فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله إجابة الأصنام في تلك الشفاعة ، وهذا نوع طاعة ، فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله : (
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع )
[ ص: 46 ] وأجابوا عن الكلام الثاني بأن قالوا : الأصل في حرف التعريف أن ينصرف إلى المعهود السابق ، فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع ، وكان هناك معهود سابق انصرف إليه ، وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله ، فوجب أن ينصرف إليه ، وأجابوا عن الكلام الثالث بأن قالوا : قوله : (
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) يحتمل عموم السلب ، ويحتمل سلب العموم ، أما الأول فعلى تقدير أن يكون المعنى أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع ، وأما الثاني فعلى تقدير أن يكون المعنى أن مجموع الظالمين ليس لهم حميم ولا شفيع ، ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع ، والذي يؤكد ما ذكرناه قوله تعالى : (
الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [البقرة : 6] فقوله : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، إن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في كلام الله ; لأن كثيرا ممن كفر فقد آمن بعد ذلك ، أما لو حملناه على أن مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن ، صدق وتخلص عن الخلف ، فلا جرم حملنا هذه الآية على سلب العموم ، ولم نحملها على عموم السلب ، فكذا قوله : (
ما للظالمين من حميم ولا شفيع ) يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب ، وحينئذ بطل استدلال
المعتزلة بهذه الآية ، فهذا غاية الكلام في هذا الباب .
المسألة الرابعة : في بيان نظم الآية ، فنقول : إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف . فأولها : أنه سمى ذلك اليوم
يوم الآزفة ، أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم ; لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف ، حتى قيل : إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة .
والثاني قوله : (
إذ القلوب لدى الحناجر ) والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعا من دخول النفس . والثالث قوله : (
كاظمين ) والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف ، وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب . والرابع قوله : (
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) فبين أنه ليس لهم قريب ينفعهم ، ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته . والخامس قوله : (
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) والمعنى
أنه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب منه شديدا جدا ، قال صاحب "الكشاف" : الخائنة صفة النظرة أو مصدر بمعنى الخائنة ، كالعافية المعافاة ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب ، والمراد بقوله : (
وما تخفي الصدور ) مضمرات القلوب ، والحاصل أن الأفعال قسمان : أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، أما أفعال الجوارح ، فأخفاها خائنة الأعين ، والله أعلم بها ، فكيف الحال في سائر الأعمال .
وأما أفعال القلوب ، فهي معلومة لله تعالى لقوله : (
وما تخفي الصدور ) فدل هذا على كونه تعالى عالما بجميع أفعالهم . السادس : قوله تعالى : (
والله يقضي بالحق ) وهذا أيضا يوجب عظم الخوف ; لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال ، وثبت منه أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل ، كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى . السابع : أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام ، وقد بين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة ، فقال : (
والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ) الثامن : قوله (
إن الله هو السميع البصير ) أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ، ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ، ويبصر خضوعهم وسجودهم لهم ، ولا يبصر خضوعهم
[ ص: 47 ] وتواضعهم لله ، فهذه الأحوال الثمانية إذا اجتمعت في حق المذنب الذي عظم ذنبه كان بالغا في التخويف إلى الحد الذي لا تعقل الزيادة عليه ، ثم إنه تعالى لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال : (
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ) والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره ، فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار ، وأقوى آثارا في الأرض منهم ، والمراد حصونهم وقصورهم وعساكرهم ، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله بضروب الهلاك معجلا حتى إن هؤلاء الحاضرين من الكفار يشاهدون تلك الآثار ، فحذرهم الله تعالى من مثل ذلك بهذا القول ، وبين بقوله : (
وما كان لهم من الله من واق ) أنه لما نزل العذاب بهم عند أخذه تعالى لهم لم يجدوا من يعينهم ويخلصهم ، ثم بين أن ذلك نزل بهم لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل ، فحذر قوم الرسول من مثله ، وختم الكلام بأنه (
قوي شديد العقاب ) مبالغة في التحذير والتخويف ، والله أعلم .
وقرأ
ابن عامر وحده "كانوا هم أشد منكم" بالكاف ، والباقون بالهاء . أما وجه قراءة
ابن عامر فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب ، كقوله : (
إياك نعبد وإياك نستعين ) [الفاتحة : 5] بعد قوله : (
الحمد لله ) [الفاتحة : 1] والوجه في حسن هذا الخطاب أنه في شأن
أهل مكة ، فجعل الخطاب على لفظ المخاطب الحاضر لحضورهم ، وهذه الآية في المعنى كقوله : (
مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) [الأنعام : 6] وأما قراءة الباقين على لفظ الغيبة فلأجل موافقة ما قبله من ألفاظ الغيبة .