(
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون )
قوله تعالى : (
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون )
[ ص: 79 ] اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا لطيفا في آخر هذه السورة ، وذلك أنه ذكر فصلا في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة ، ثم أردفه بفضل التهديد والوعيد ، وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد ، والمقصود أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا ، والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه .
فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا ، فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة ؛ لأن
الدنيا فانية ذاهبة ، واحتج عليه بقوله تعالى : (
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن
عاقبة المتكبرين المتمردين ، ليست إلا الهلاك والبوار ، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين ، فلما لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة والدولة القاهرة إلا الخيبة والخسار ، والحسرة والبوار ، فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين .
أما بيان أنهم كانوا أكثر من هؤلاء عددا فإنما يعرف في الأخبار ، وأما أنهم كانوا أشد قوة وآثارا في الأرض ؛ فلأنه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم ، مثل الأهرام الموجودة
بمصر ، ومثل هذه البلاد العظيمة التي بناها الملوك المتقدمون ، ومثل ما حكى الله عنهم من أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا .
ثم قال تعالى : (
فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) ما في قوله (
فما أغنى عنهم ) نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ومحلها النصب ، وما في قوله (
ما كانوا يكسبون ) موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم .
ثم بين تعالى أن أولئك الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم ، واعلم أن الضمير في قوله : ( فرحوا ) يحتمل أن يكون عائدا إلى الكفار ، وأن يكون عائدا إلى الرسل ، أما إذا قلنا إنه عائد إلى الكفار ، فذلك العلم الذي فرحوا به أي علم كان ؟ وفيه وجوه :
الأول : أن يكون المراد الأشياء التي كانوا يسمونها بالعلم ، وهي الشبهات التي حكاها الله عنهم في القرآن كقولهم (
وما يهلكنا إلا الدهر ) [ الجاثية : 24 ] وقولهم (
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) [ الأنعام : 148 ] وقولهم (
من يحيي العظام وهي رميم ) [ يس : 78 ] ، (
ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) [ الكهف : 36 ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء ، كما قال : (
كل حزب بما لديهم فرحون ) [ الروم : 32 ] ، الثاني : يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة ، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم ، وعن
سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له : لو هاجرت ، فقال : نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا .
الثالث : يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : (
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) [ الروم : 7 ] ، (
ذلك مبلغهم من العلم ) [ النجم : 30 ] ، فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة الله تعالى ومعرفة العماد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزئوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به .
أما إذا قلنا الضمير عائد إلى الأنبياء ففيه وجهان :
الأول : أن يجعل الفرح للرسل ، ومعناه أن الرسل لما رأوا من قومهم جهلا كاملا ، وإعراضا عن الحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم ، فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه ، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم . الثاني : أن يكون المراد فرحوا بما عند الرسل
[ ص: 80 ] من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال : استهزئوا بالبينات ، وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين ، ويدل عليه قوله تعالى : (
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .
ثم قال تعالى : (
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ) البأس شدة العذاب ومنه قوله تعالى : (
بعذاب بئيس ) [ الأعراف : 165 ] فإن قيل أي فرق بين قوله : (
فلم يك ينفعهم إيمانهم ) وبين ما لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم ؟ قلنا هو مثل كان في نحو قوله : (
ما كان لله أن يتخذ من ولد ) [ مريم : 35 ] والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم ، فإن قيل : اذكروا ضابطا في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه ، قلنا إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب ؛ لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان ، فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه ، حتى يكون المرء مختارا ، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا .
ثم قال تعالى : (
سنة الله التي قد خلت في عباده ) والمعنى أن عدم قبول الإيمان حال اليأس سنة الله مطردة في كل الأمم .
ثم قال : (
وخسر هنالك الكافرون ) فقوله : (
هنالك ) مستعار للزمان أي : وخسروا وقت رؤية البأس ، والله الهادي للصواب .
تم تفسير هذه السورة يوم السبت الثاني من ذي الحجة من سنة ثلاث وستمائة من الهجرة في بلدة
هراة .
يا من لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من جلالك وعزتك أقصى نعوت الناعتين ، يا من تقاصرت عن الإحاطة بمبادئ أسرار كبريائه أفهام المتفكرين ، وأنظار المتأملين ، لا تجعلنا بفضلك ورحمتك في زمرة الخاسرين المبطلين ، ولا تجعلنا يوم القيامة من المحرومين ، فإنك أكرم الأكرمين .
والحمد لله رب العالمين ، وصلوات الله على سيدنا
محمد النبي وآله وصحبه أجمعين .