[ ص: 81 ] ( سورة فصلت )
خمسون وأربع آيات ، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )
بسم الله الرحمن الرحيم (
حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )
اعلم أن في أول هذه السورة احتمالات : أحدها : وهو الأقوى أن يقال " حم " اسم للسورة وهو في موضع المبتدأ وتنزيل خبره ، وثانيها : قال
الأخفش : تنزيل رفع بالابتداء وكتاب خبره ، وثالثها : قال
الزجاج : تنزيل رفع بالابتداء وخبره "
كتاب فصلت آياته " ووجهه أن قوله : (
تنزيل ) تخصص بالصفة وهو قوله : (
من الرحمن الرحيم ) فجاز وقوعه مبتدأ .
[ ص: 82 ] واعلم أنه تعالى حكم على السورة المسماة بـ " حم " بأشياء :
أولها : كونه تنزيلا ، والمراد المنزل ، والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ، يقال : هذا بناء الأمير أي مبنيه ، وهذا الدرهم ضرب السلطان أي مضروبه ، والمراد من كونها منزلا أن الله تعالى كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر
جبريل عليه السلام بأن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على
محمد صلى الله عليه وسلم ويبلغها إليه ، فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول
جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلا وثانيها : كون التنزيل من الرحمن الرحيم ، وذلك يدل على كون التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى ؛ لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسبا لتلك الصفة ، فكونه تعالى رحمانا رحيما صفتان دالتان على كمال الرحمة ، فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالا على أعظم وجوه النعمة ، والأمر في نفسه كذلك ؛ لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والزمنى والمحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية ، فكان
أعظم النعم عند الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم .
وثالثها : كونه كتابا وقد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع ، وإنما سمي كتابا ؛ لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين .
ورابعها : قوله (
فصلت آياته ) والمراد أنه فرقت آياته وجعلت تفاصيل في معان مختلفة ، فبعضها في وصف ذات الله تعالى وشرح صفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته وعجائب أحوال خلقه السماوات والأرض والكواكب ، وتعاقب الليل والنهار ، وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان ، وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب ونحو الجوارح ، وبعضها في الوعد والوعيد ، والثواب والعقاب ، ودرجات أهل الجنة ، ودرجات أهل النار ، وبعضها في المواعظ والنصائح ، وبعضها في تهذيب الأخلاق ، ورياضة النفس ، وبعضها في قصص الأولين ، وتواريخ الماضين .
وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن .
وخامسها : قوله (
قرآنا ) والوجه في تسميته قرآنا قد سبق ، وقوله تعالى : (
قرآنا ) نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت ، وقيل هو نصب على الحال
وسادسها : قوله (
عربيا ) والمعنى أن هذا
القرآن إنما نزل بلغة العرب وتأكد هذا بقوله تعالى : (
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) [ إبراهيم : 4 ] .
وسابعها : قوله تعالى : (
لقوم يعلمون ) والمعنى : إنا جعلناه عربيا لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد ، فإن قيل : قوله : (
لقوم يعلمون ) متعلق بماذا ؟ قلنا : يجوز أن يتعلق بقوله (
تنزيل ) أو بقوله (
فصلت ) أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم ، والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب ، لئلا يفرق بين الصلات والصفات .
وثامنها وتاسعها : قوله : (
بشيرا ونذيرا ) يعني بشيرا للمطيعين بالثواب ونذيرا للمجرمين بالعقاب ، والحق أن
القرآن بشارة ونذارة ، إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة ، كما يقال شعر شاعر وكلام قائل .
الصفة العاشرة : كونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه ، فهذه هي الصفات العشرة التي وصف الله القرآن بها ، ويتفرع عليها مسائل :
المسألة الأولى :
القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه وصف القرآن بكونه تنزيلا ومنزلا والمنزل والتنزيل مشعر بالتصيير من حال ، فوجب أن يكون مخلوقا .
الثاني : أن التنزيل مصدر ، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين .
الثالث : المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو
[ ص: 83 ] المفعول المطلق أو المكتوب الذي هو المفعول .
الرابع : أن قوله ( فصلت ) يدل على أن متصرفا يتصرف فيه بالتفصيل والتمييز ، وذلك لا يليق بالقديم .
الخامس : أنه إنما سمي قرآنا ؛ لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل
السادس : وصفه عربيا ، وإنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم ، وما جعل بجعل جاعل وفعل فاعل ، فلا بد وأن يكون محدثا ومخلوقا .
الجواب : أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات ، وهي عندنا محدثة مخلوقة ، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ ، والله أعلم .
المسألة الثانية : ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف
تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية ، فأما حملها على معان أخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعا ، وذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن ، مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل وتارة يحملون كل حرف على شيء آخر ، وللصوفية طرق كثيرة في الباب ويسمونها علم المكاشفة والذي يدلل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى : (
قرآنا عربيا ) وإنما سماه عربيا لكونه دالا على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب وباصطلاحاتهم ، وذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة ، وأن ما سواه فهو باطل .
المسألة الثالثة : ذهب قوم إلى أنه حصل في القرآن من سائر اللغات كقوله : (
إستبرق ) [ الكهف : 31 ] و (
سجيل ) [ هود : 82 ] فإنهما فارسيان ، وقوله ( مشكاة ) [ النور : 35 ] فإنها من لغة
الحبشة وقوله : ( قسطاس ) [ الإسراء : 35 ] فإنه من لغة
الروم والذي يدل على فساد هذا المذهب قوله : (
قرآنا عربيا ) ، وقوله : (
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) [ إبراهيم : 4 ] .
المسألة الرابعة : قالت
المعتزلة لفظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصوم والحج ألفاظ شرعية لا لغوية ، والمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى ، وعندنا أن هذا باطل ، وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا من وجه واحد ، وهو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلا ، الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق ، والصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء ، كذا القول في البواقي ودليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى : (
قرآنا عربيا ) ، وقوله (
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) .