[ ص: 122 ] ( سورة الشورى )
خمسون وثلاث آيات ، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل )
قوله تعالى : (
حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل )
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول : أن يقال : إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله : (
حم ) فما
السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد ( عسق ) ؟ .
الثاني : أنهم أجمعوا على أنه لا يفصل بين (
كهيعص ) [ مريم : 1 ] ( وههنا يفصل بين (
حم ) وبين (
عسق ) فما السبب فيه ؟
واعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيق ، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه ، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود " حم عسق " .
أما قوله تعالى : (
كذلك يوحي إليك ) فالكاف معناه المثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره ، فيكون المعنى : مثل : (
حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك ) وعند هذا حصل قولان :
[ ص: 123 ] الأول : نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : " لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق " وهذا عندي بعيد .
الثاني : أن يكون المعنى : مثل الكتاب المسمى بـ " حم عسق " يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك ، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة ، والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة : (
سبح اسم ربك الأعلى ) [ الأعلى : 1 ] أن أولها في تقرير التوحيد ، وأوسطها في تقرير النبوة ، وآخرها في تقرير المعاد ، ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال : (
إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) [ الأعلى : 18 ] يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة ، فكذلك ههنا يعني مثل الكتاب المسمى بـ " حم عسق " يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء ، والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية ، قال صاحب " الكشاف " ولم يقل أوحى إليك ، ولكن قال : (
يوحي إليك ) على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته .
وقرأ
ابن كثير " كذلك يوحى " بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن
أبي عمرو وعن بعضهم " نوحي " بالنون ، وقرأ الباقون " يوحي إليك وإلى الذين من قبلك " بكسر الحاء ، فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى ؟ قلنا ما دل عليه بوحي ، كأن قائلا قال من الموحي ؟ فقيل الله ، ونظيره قراءة
السلمي " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " [ الأنعام : 137 ] على البناء للمفعول ، ورفع " شركاؤهم " فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ " نوحي " بالنون ؟ قلنا يرفع بالابتداء ، والعزيز وما بعده أخبار ، أو (
العزيز الحكيم ) صفتان والظرف خبره ، ولما ذكر أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو ، فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة " حم المؤمن " أن كونه عزيزا يدل على كونه قادرا على ما لا نهاية له وكونه حكيما يدل على كونه عالما بجميع المعلومات غنيا عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزا حكيما
كونه قادرا على جميع المقدورات عالما بجميع المعلومات غنيا عن جميع الحاجات ، ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصوابا ، وكانت مبرأة عن العيب والعبث ، قال مصنف الكتاب : قلت في قصيدة :
الحمد لله ذي الآلاء والنعم والفضل والجود والإحسان والكرم
منزه الفعل عن عيب وعن عبث
مقدس الملك عن عزل وعن عدم
والصفة الثالثة قوله : (
له ما في السماوات وما في الأرض ) وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال : أحدهما : كونه موصوفا بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السماوات والأرض على عظمتها وسعتها ، بالإيجاد والإعدام ، والتكوين والإبطال .
والثاني : أنه لما بين بقوله : (
له ما في السماوات وما في الأرض ) أن كل ما في السماوات وما في الأرض فهو ملكه وملكه ، وجب أن يكون منزها عن كونه حاصلا في السماوات وفي الأرض ، وإلا لزم كونه ملكا لنفسه .
وإذا ثبت أنه ليس في شيء من السماوات امتنع كونه أيضا في العرش ؛ لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجودا فوق السماوات كان في الحقيقة سماء ، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلا في العرش ملكا لله وملكا له ، فوجب أن يكون منزها عن كونه حاصلا في العرش ، وإن قالوا : إنه تعالى قال : (
له ما في السماوات ) وكلمة ما تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين : الأول : أن
[ ص: 124 ] لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى : (
والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ) [ الشمس : 6 ] وقال : (
لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ) ، [ الكافرون : 5 ] .
والثاني : أن صيغة " من " : وردت في مثل هذه السورة قال تعالى : (
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [ مريم : 93 ] وكلمة " من " لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلت هذه الآية على أن
كل من في السماوات والأرض فهو عبد الله ، فلو كان الله موجودا في السماوات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في السماوات فوجب أن يكون عبد الله ، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجودا في السماوات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزها عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي .
والصفة الرابعة والخامسة : قوله تعالى : (
وهو العلي العظيم ) ولا يجوز أن يكون المراد بكونه عليا العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده ، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم ؛ لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض ، وذلك ضد قوله : (
الله أحد ) فوجب أن يكون
المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات ، ومن العظيم العظمة بالقدرة ، والقهر بالاستعلاء ، وكمال الإلهية .