المسألة الأولى : في الوعيد : ولنذكر دلائل
المعتزلة أولا ، ثم دلائل
المرجئة الخالصة ، ثم دلائل أصحابنا رحمهم الله . أما
المعتزلة فإنهم عولوا على العمومات الواردة في هذا الباب ، وتلك العمومات على جهتين . بعضها وردت بصيغة " من " في معرض الشرط وبعضها وردت بصيغة الجمع ، أما النوع الأول فآيات :
إحداها : قوله تعالى في آية المواريث : (
تلك حدود الله ) [ النساء : 13 ] إلى قوله : (
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ) [ النساء : 14 ] ، وقد علمنا أن من
ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وارتكب شرب الخمر والزنا وقتل النفس المحرمة فهو متعد لحدود الله ، فيجب أن يكون من أهل العقاب ، وذلك لأن كلمة " من " في معرض الشرط تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه ، فمتى حمل الخصم هذه الآية على الكافر دون المؤمن كان ذلك على خلاف الدليل ثم الذي يبطل قوله وجهان :
أحدهما : أنه تعالى بين حدوده في المواريث ثم وعد من يطيعه في تلك الحدود وتوعد من يعصيه فيها ، ومن تمسك بالإيمان والتصديق به تعالى فهو أقرب إليها إلى الطاعة فيها ممن يكون منكرا لربوبيته ومكذبا لرسله وشرائعه ، فترغيبه في الطاعة فيها أخص ممن هو أقرب إلى الطاعة فيها وهو المؤمن ، ومتى كان المؤمن مرادا بأول الآية فكذلك بآخرها .
الثاني : أنه قال : (
تلك حدود الله ) [ النساء : 13 ] ولا شبهة في أن المراد به الحدود المذكورة ، ثم علق بالطاعة فيها الوعد وبالمعصية فيها الوعيد ، فاقتضى سياق الآية أن الوعيد متعلق بالمعصية في هذه الحدود فقط دون أن يضم إلى ذلك تعدي حدود أخر ، ولهذا كان مزجورا بهذا الوعيد في تعدي هذه الحدود فقط ولو لم يكن مرادا بهذا الوعيد لما كان مزجورا به ، وإذا ثبت أن المؤمن مراد بها كالكافر بطل قول من يخصها بالكافر ، فإن قيل : إن قوله تعالى : (
ويتعد حدوده ) [ النساء : 14 ] جمع مضاف والجمع المضاف عندكم يفيد العموم ، كما لو قيل : ضربت عبيدي ، فإنه يكون ذلك شاملا لجميع عبيده ، وإذا ثبت ذلك اختصت هذه الآية بمن تعدى جميع حدود الله وذلك هو الكافر لا محالة دون المؤمن ، قلنا : الأمر وإن كان كما ذكرتم نظرا إلى اللفظ لكنه وجدت قرائن تدل على أنه ليس المراد ههنا تعدي جميع الحدود :
أحدها : أنه تعالى قدم على قوله : (
ويتعد حدوده ) قوله تعالى : (
تلك حدود الله ) فانصرف قوله : (
ويتعد حدوده ) إلى تلك الحدود .
وثانيها : أن الأمة متفقون على أن المؤمن مزجور بهذه الآية عن المعاصي ، ولو صح ما ذكرتم لكان المؤمن غير مزجور بها .
وثالثها : أنا لو حملنا الآية على تعدي جميع الحدود لم يكن للوعيد بها فائدة لأن أحدا من المكلفين لا يتعدى
[ ص: 134 ] جميع حدود الله ، لأن في الحدود ما لا يمكن الجمع بينها في التعدي لتضادها ، فإنه لا يتمكن أحد من أن يعتقد في حالة واحدة مذهب الثنوية والنصرانية وليس يوجد في المكلفين من يعصي الله بجميع المعاصي .
ورابعها : قوله تعالى في
قاتل المؤمن عمدا : (
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) [ النساء : 93 ] ، دلت الآية على أن ذلك جزاؤه ، فوجب أن يحصل له هذا الجزاء لقوله تعالى : (
من يعمل سوءا يجز به ) [ النساء : 123 ] .
وخامسها : قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا ) [ الأنفال : 15 ] إلى قوله : (
ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) [ الأنفال : 16 ] .
وسادسها : قوله تعالى : (
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره .
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 7 ] .
وسابعها : قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ النساء : 29 ] إلى قوله تعالى : (
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ) [ النساء : 30 ] .
وثامنها : قوله تعالى : (
إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى .
ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ) [ طه : 74 ، 75 ] فبين تعالى أن
الكافر والفاسق من أهل العقاب الدائم كما أن المؤمن من أهل الثواب .
وتاسعها : قوله تعالى : (
وقد خاب من حمل ظلما ) [ طه : 111 ] وهذا يوجب أن يكون الظالم من أهل الصلاة داخلا تحت هذا الوعيد .
وعاشرها : قوله تعالى بعد تعداد المعاصي : (
ومن يفعل ذلك يلق أثاما .
يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) [ الفرقان : 68 ، 69 ] بين أن الفاسق كالكافر في أنه من أهل الخلود ، إلا من تاب من الفساق أو آمن من الكفار .
والحادية عشرة : قوله تعالى : (
من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون .
ومن جاء بالسيئة ) [ النمل : 89 ، 90 ] الآية ، وهذا يدل على أن
المعاصي كلها متوعد عليها كما أن الطاعات كلها موعود عليها .
والثانية عشرة : قوله تعالى : (
فأما من طغى .
وآثر الحياة الدنيا .
فإن الجحيم هي المأوى ) [ النازعات : 37 ، 38 ، 39 ] . .
والثالثة عشرة : قوله تعالى : (
ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم ) [ الجن : 23 ] الآية ، ولم يفصل بين الكافر والفاسق .
والرابعة عشرة : قوله تعالى : (
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) الآية ، فحكى في أول الآية قول المرجئة من
اليهود فقال : (
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ثم إن الله كذبهم فيه ، ثم قال : (
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) فهذه هي الآيات التي تمسكوا بها في المسألة لاشتمالها على صيغة " من " في معرض الشرط واستدلوا على أن هذه اللفظة تفيد العموم بوجوه :
أحدها : أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص أو مشتركة بينهما والقسمان باطلان ، فوجب كونها موضوعة للعموم ، أما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للخصوص فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلم أن يعطي الجزاء لكل من أتى بالشرط ، لأن على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتبا على ذلك الشرط ، لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كل من دخل داره فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص ، وأما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للاشتراك ، أما أولا : فلأن الاشتراك خلاف الأصل ، وأما ثانيا : فلأنه لو كان كذلك لما عرف كيفية ترتيب الجزاء على الشرط إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته ، فيقال له : أردت الرجال أو النساء ، فإذا قال : أردت الرجال يقال له : أردت العرب أو العجم ، فإذا قال : أردت العرب يقال له : أردت
ربيعة أو
[ ص: 135 ] مضر وهلم جرا إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة ، ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل .
وثانيها : أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته حسن استثناء كل واحد من العقلاء منه ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يكون بحيث يصح دخوله تحت المستثنى منه ، فإما أن يعتبر مع الصحة الوجوب أو لا يعتبر والأول باطل .
أما أولا : فلأنه يلزم أن لا يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله : جاءني الفقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله : جاءني الفقهاء إلا زيدا فرق لصحة دخول زيد في الكلامين ، لكن الفرق بينهما معلوم بالضرورة .
وأما ثانيا : فلأن الاستثناء من العدد يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته ، فوجب أن يكون هذا فائدة الاستثناء في جميع المواضع لأن أحدا من أهل اللغة لم يفصل بين الاستثناء الداخل على العدد وبين الداخل على غيره من الألفاظ ، فثبت بما ذكرنا أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على أن صيغة " من " في معرض الشرط للعموم .
وثالثها : أنه تعالى لما أنزل قوله : (
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الأنبياء : 98 ] الآية ، قال
ابن الزبعرى : لأخصمن
محمدا ثم قال : يا
محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد
عيسى ابن مريم ، فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليه ذلك ، فدل على أن هذه الصيغة تفيد العموم .