ثم قال تعالى : (
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
نافع وحمزة والكسائي " إن كنتم " بكسر الألف ، تقديره : إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر صفحا ، وقيل : "إن " بمعنى " إذ " كقوله تعالى : (
وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) [البقرة : 278] وبالجملة : فالجزاء مقدم على الشرط ، وقرأ الباقون بفتح الألف على التعليل ، أي : لأن كنتم مسرفين .
المسألة الثانية : قال
الفراء والزجاج : يقول ضربت عنه وأضربت عنه أي تركته وأمسكت عنه ، وقوله (
صفحا ) أي إعراضا ، والأصل فيه أنك توليت بصفحة عنقك ، وعلى هذا فقوله (
أفنضرب عنكم الذكر صفحا ) - تقديره : أفنضرب عنكم إضرابنا ، أو تقديره : أفنصفح عنكم صفحا ، واختلفوا في معنى الذكر ، فقيل : معناه أفنرد عنكم ذكر عذاب الله ، وقيل : أفنرد عنكم النصائح والمواعظ ، وقيل : أفنرد عنكم القرآن ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، يعني : إنا لا نترك هذا الإعذار الإنذار بسبب كونكم مسرفين ، قال
قتادة : لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة . إذا عرفت هذا فنقول : هذا الكلام يحتمل وجهين :
الأول : الرحمة يعني أن لا نترككم مع سوء اختياركم ، بل نذكركم ونعظكم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق .
الثاني : المبالغة في التغليظ ، يعني أتظنون أن تتركوا مع ما
[ ص: 168 ] تريدون ؟ كلا ، بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح .
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : الفاء في قوله (
أفنضرب ) للعطف على محذوف ، تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر .
ثم قال تعالى : (
وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون ) والمعنى أن
عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء ، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء ؛ لأن المصيبة إذا عمت خفت .
ثم قال تعالى : (
فأهلكنا أشد منهم بطشا ) يعني أن أولئك المتقدمين الذين أرسل الله إليهم الرسل كانوا أشد بطشا من
قريش ، يعني أكثر عددا وجلدا ، ثم قال : (
ومضى مثل الأولين ) والمعنى أن كفار
مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم ، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم ، فقد ضربنا لهم مثلهم ؛ كما قال : (
وكلا ضربنا له الأمثال ) [الفرقان : 39] وكقوله (
وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) [إبراهيم : 45] إلى قوله (
وضربنا لكم الأمثال ) والله أعلم .