(
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون )
قوله تعالى (
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون )
اعلم أنه تعالى لما قال : (
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ) ذكر عقيبه
بعض ما يتعلق بأحوال القيامة :
فأولها : (
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) والمعنى (
الأخلاء ) في الدنيا (
يومئذ ) يعني في الآخرة (
بعضهم لبعض عدو ) يعني أن
الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة (
إلا المتقين ) يعني الموحدين الذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى ، فإن خلتهم لا تصير عداوة ، وللحكماء في تفسير هذه الآية طريق حسن ، قالوا : إن
المحبة أمر لا يحصل إلا عند اعتقاد حصول خير أو دفع ضرر ، فمتى حصل هذا الاعتقاد حصلت المحبة لا محالة ، ومتى حصل اعتقاد أنه يوجب ضررا حصل البغض والنفرة ، إذا عرفت هذا فنقول : تلك الخيرات التي كان اعتقاد حصولها يوجب حصول المحبة - إما أن تكون قابلة للتغير والتبدل ، أو لا تكون كذلك ، فإن كان الواقع هو القسم الأول ، وجب أن تبدل تلك المحبة بالنفرة ، لأن تلك المحبة إنما حصلت لاعتقاد حصول الخير والراحة ، فإذا زال ذلك الاعتقاد وحصل عقيبه اعتقاد أن الحاصل هو الضرر والألم - وجب أن تتبدل تلك المحبة بالبغضة ، لأن
تبدل العلة يوجب تبدل المعلول ، أما إذا كانت الخيرات الموجبة للمحبة خيرات باقية أبدية غير قابلة للتبدل والتغير ، كانت تلك المحبة أيضا محبة باقية آمنة من التغير ، إذا عرفت هذا الأصل فنقول : الذين حصلت بينهم محبة ومودة في الدنيا ، إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا وطيباتها ولذاتها ، فهذه المطالب لا تبقى في القيامة ، بل يصير طلب الدنيا سببا لحصول الآلام والآفات في يوم القيامة ، فلا جرم تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة ونفرة في القيامة ، أما إن كان الموجب لحصول المحبة في الدنيا الاشتراك في محبة الله وفي خدمته وطاعته ، فهذا السبب غير قابل للنسخ والتغير ، فلا جرم كانت هذه المحبة باقية في القيامة ، بل كأنها تصير أقوى وأصفى وأكمل وأفضل مما كانت في الدنيا ، فهذا هو التفسير المطابق لقوله
[ ص: 193 ] تعالى : (
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) الحكم الثاني من أحكام يوم القيامة : قوله تعالى : (
ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) ، وقد ذكرنا مرارا أن
عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين ، فقوله : (
ياعباد ) كلام الله تعالى ، فكأن الحق يخاطبهم بنفسه ويقول لهم : (
ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) ، وفيه أنواع كثيرة مما يوجب الفرح :
أولها : أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة .
وثانيها : أنه تعالى وصفهم بالعبودية ، وهذا تشريف عظيم ، بدليل أنه لما أراد أن يشرف
محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج قال : (
سبحان الذي أسرى بعبده ) [ الإسراء : 1 ] .
وثالثها : قوله (
لا خوف عليكم اليوم ) فأزال عنهم الخوف في يوم القيامة بالكلية ، وهذا من أعظم النعم .
ورابعها : قوله (
ولا أنتم تحزنون ) فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية .
ثم قال تعالى : (
الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ) قيل : (
الذين آمنوا ) مبتدأ ، وخبره مضمر ، والتقدير : يقال لهم : ادخلوا الجنة ، ويحتمل أن يكون المعنى : أعني الذين آمنوا .
قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد : (
ياعباد لا خوف عليكم اليوم ) ، فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رءوسهم ، فيقال : (
الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ) فتنكس أهل الأديان الباطلة رءوسهم .
الحكم الثالث : من وقائع القيامة أنه تعالى إذا
أمن المؤمنين من الخوف والحزن ، وجب أن يمر حسابهم على أسهل الوجوه وعلى أحسنها ، ثم يقال لهم : (
ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ) ، والحبرة المبالغة في الإكرام فيما وصف بالجميل ، يعني يكرمون إكراما على سبيل المبالغة ، وهذا مما سبق تفسيره في سورة الروم .
ثم قال : (
يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب ) ، قال
الفراء : الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له ، فقوله : (
يطاف عليهم بصحاف من ذهب ) إشارة إلى المطعوم ، وقوله : (
وأكواب ) إشارة إلى المشروب ، ثم إنه تعالى ترك التفصيل وذكر بيانا كليا فقال : (
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) .
ثم قال : (
وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، وقد ذكرنا في وراثة الجنة وجهين في قوله : (
أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ) [ المؤمنون : 10 ، 11 ] ، ولما ذكر الطعام والشراب فيما تقدم ذكر ههنا حال الفاكهة فقال : (
لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ) .
واعلم أنه تعالى بعث
محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب أولا ، ثم إلى العالمين ثانيا ، والعرب كانوا في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة ، فلهذا السبب تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلا لرغبتهم وتقوية لدواعيهم .