(
إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون )
قوله تعالى : (
إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون ) .
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في الآيات المتقدمة ذكر الوعد في هذه الآيات فقال : (
إن المتقين ) قال أصحابنا :
كل من اتقى الشرك فقد صدق عليه اسم المتقي ، فوجب أن يدخل الفاسق في هذا الوعد .
واعلم أنه تعالى ذكر من أسباب تنعمهم أربعة أشياء ، أولها : مساكنهم فقال : (
في مقام أمين ) .
واعلم أن المسكن إنما يطيب بشرطين :
أحدهما : أن يكون آمنا عن جميع ما يخاف ويحذر وهو المراد من قوله : (
في مقام أمين ) ، قرأ الجمهور (
في مقام ) بفتح الميم ، وقرأ
نافع وابن عامر بضم الميم ، قال صاحب “ الكشاف “ : المقام بفتح الميم وهو موضع القيام ، والمراد المكان ، وهو من الخاص الذي جعل مستعملا في المعنى العام ، وبالضم هو موضع الإقامة ، والأمين من قولك : أمن الرجل أمانة فهو أمين ، وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنه يخون صاحبه .
والشرط الثاني لطيب المكان أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة وهي الجنات والعيون ، فلما ذكر تعالى هذين الشرطين في
مساكن أهل الجنة فقد وصفها بما لا يقبل الزيادة .
والقسم الثاني من تنعماتهم الملبوسات فقال : (
يلبسون من سندس وإستبرق ) قيل : السندس : ما رق من الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، وهو تعريب استبرك ، فإن قالوا : كيف جاز
ورود الأعجمي في القرآن ؟ قلنا : لما عرب فقد صار عربيا .
[ ص: 217 ] والقسم الثالث : فهو جلوسهم على صفة التقابل والغرض منه استئناس البعض بالبعض ، فإن قالوا : الجلوس على هذا الوجه موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعا على ما يفعله الآخر ، وأيضا فالذي يقل ثوابه إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه يتنغص عيشه ، قلنا : أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا .
والقسم الرابع : أزواجهم ، فقال : (
كذلك وزوجناهم بحور عين ) الكاف فيه وجهان : أن تكون مرفوعة والتقدير : الأمر كذلك ، أو منصوبة والتقدير : آتيناهم مثل ذلك ، قال
أبو عبيدة : جعلناهم أزواجا كما يزوج البعل بالبعل أي جعلناهم اثنين اثنين ، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا ؟ قال
يونس : قوله : (
وزوجناهم بحور عين ) أي قرناهم بهن فليس من عقد التزويج ، والعرب لا تقول : تزوجت بها ، وإنما تقول : تزوجتها ، قال
الواحدي رحمه الله : والتنزيل يدل على ما قال
يونس ، وذلك قوله : (
فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ) [ الأحزاب : 37 ] ، ولو كان المراد تزوجت بها زوجناك بها ، وأيضا فقول القائل : زوجته به معناه أنه كان فردا فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر ، وأما الحور فقال
الواحدي : أصل الحور البياض والتحوير التبييض ، وقد ذكرنا ذلك في تفسير الحواريين ، وعين حوراء إذا اشتد بياض بياضها واشتد سواد سوادها ، ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون حور عينيها بياضا في لون الجسد ، والدليل على أن
المراد بالحور في هذه الآية البيض قراءة
ابن مسعود بعيس عين ، والعيس البيض ، وأما العين فجمع عيناء ، وهي التي تكون عظيمة العينين من النساء ، فقال
الجبائي : رجل أعين إذا كان ضخم العين واسعها والأنثى عيناء والجمع عين ، ثم اختلفوا في هؤلاء الحور العين ، فقال
الحسن : هن عجائزكم الدرد ينشئهن الله خلقا آخر ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : إنهن ليسوا من نساء الدنيا .
والنوع الخامس
من تنعمات أهل الجنة المأكول فقال : (
يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ) قالوا إنهم يأكلون جميع أنواع الفاكهة لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض .
ولما وصف الله تعالى أنواع ما هم فيه من الخيرات والراحات بين أن حياتهم دائمة ، فقال : (
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) ، وفيه سؤالان :
السؤال الأول : أنهم ما ذاقوا الموتة الأولى في الجنة فكيف حسن هذا الاستثناء ؟ وأجيب عنه من وجوه :
الأول : قال صاحب “ الكشاف “ : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : (
إلا الموتة الأولى ) موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال في المستقبل ، فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها .
الثاني : أن ( إلا ) بمعنى ( لكن ) والتقدير : لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها .
والثالث : أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضا في الجنة ، وإذا كان الأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى حين كان الإنسان في الجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله والمحبة ، فذكر هذا الاستثناء كالتنبيه على قولنا : إن الجنة الحقيقية هي حصول هذه الحالة لا الدار التي هي دار الأكل والشرب ، ولهذا السبب قال عليه السلام : (
أنبياء الله لا يموتون ، ولكن ينقلون من دار إلى دار ) .
والرابع : أن من جرب شيئا ووقف عليه صح أن يقال : إنه ذاقه ، وإذا صح أن يسمى العلم بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضا بالذوق ، فقوله : (
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) يعني إلا الذوق
[ ص: 218 ] الحاصل بسبب تذكر الموتة الأولى .
السؤال الثاني : أليس أن أهل النار أيضا لا يموتون فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه ؟ والجواب : أن البشارة ما وقعت بدوام الحياة بل بدوام الحياة مع سابقة حصول تلك الخيرات والسعادات فظهر الفرق .
ثم قال تعالى : (
ووقاهم عذاب الجحيم ) قرئ ( ووقاهم ) بالتشديد ، فإن قالوا : مقتضى الدليل أن يكون ذكر الوقاية عن عذاب الجحيم متقدما على ذكر الفوز بالجنة لأن
الذي وقي عن عذاب الجحيم قد يفوز وقد لا يفوز ، فإذا ذكر بعده أنه فاز بالجنة حصلت الفائدة ، أما الذي فاز بخيرات الجنة فقد تخلص عن عقاب الله لا محالة ، فلم يكن ذكر الفوز عن عذاب جهنم بعد الفوز بثواب الجنة مفيدا ، قلنا : التقدير كأنه تعالى قال : ووقاهم في أول الأمر عن عذاب الجحيم .
ثم قال : (
فضلا من ربك ) يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص عن النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بفضل الله ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن
الثواب يحصل تفضلا من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق لأنه تعالى لما عدد أقسام ثواب المتقين بين أنها بأسرها إنما حصلت على سبيل الفضل والإحسان من الله تعالى ، قال القاضي : أكثر هذه الأشياء وإن كانوا قد استحقوه بعملهم فهو بفضل الله ؛ لأنه تعالى تفضل بالتكليف ، وغرضه منه أن يصيرهم إلى هذه المنزلة فهو كمن أعطى غيره مالا ليصل به إلى ملك ضيعة ، فإنه يقال في تلك الضيعة : إنها من فضله ، قلنا : مذهبك أن هذا الثواب حق لازم على الله ، وأنه تعالى لو أخل به لصار سفيها ولخرج به عن الإلهية ، فكيف يمكن وصف مثل هذا الشيء بأنه فضل من الله تعالى ؟
ثم قال تعالى : (
ذلك هو الفوز العظيم ) واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن
التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق ، فإنه تعالى وصفه بكونه فضلا من الله ، ثم وصف الفضل من الله بكونه فوزا عظيما ، ويدل عليه أيضا أن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة ، ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال : (
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ) ، والمعنى أنه تعالى
وصف القرآن في أول هذه السورة بكونه كتابا مبينا كثير البيان والفائدة ، وذكر في خاتمتها ما يؤكد ذلك فقال : إن ذلك الكتاب المبين الكثير الفائدة إنما يسرناه بلسانك ، أي إنما أنزلناه عربيا بلغتك ، لعلهم يتذكرون ، قال القاضي : وهذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والمعرفة ، وأنه ما أراد من أحد الكفر ، وأجاب أصحابنا أن الضمير في قوله : (
لعلهم يتذكرون ) عائد إلى أقوام مخصوصين ، فنحن نحمل ذلك على المؤمنين .
ثم قال : (
فارتقب ) أي فانتظر ما يحل بهم ، (
إنهم مرتقبون ) ما يحل بك ، متربصون بك الدوائر ، والله أعلم .
قال المصنف رحمه الله تعالى : تم تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء في نصف الليل الثاني عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة .
يا دائم المعروف ، يا قديم الإحسان ، شهد لك إشراق العرش وضوء الكرسي ، ومعارج السماوات ، وأنوار الثوابت والسيارات على منابرها ، المتوغلة في العلو الأعلى ، ومعارجها المقدسة عن غبار عالم الكون والفساد ، بأن الأول الحق الأزلي ، لا يناسبه شيء من علائق العقول ، وشوائب
[ ص: 219 ] الخواطر ، ومناسبات المحدثات ، فالقمر بسبب محوه مقر بالنقصان ، والشمس بشهادة المعارج بتغيراتها معترفة بالحاجة إلى تدبير الرحمن ، والطبائع مقهورة تحت القدرة القاهرة ،
فالله في غيبيات المعارج العالية ، والمتغيرات شاهدة بعدم تغيره ، والمتعاقبات ناطقة بدوام سرمديته ، وكل ما نوجه عليه أنه مضى وسيأتي فهو خالقه وأعلى منه ، فبوجوده الوجود والإيجاد ، وبإعدامه الفناء والفساد ، وكل ما سواه فهو تائه في جبروته ، نائر عند طلوع نور ملكوته ، وليس عند عقول الخلق إلا أنه بخلاف كل الخلق ، له العز والجلال ، والقدرة والكمال ، والجود والإفضال ، ربنا ورب مبادينا إياك نروم ، ولك نصلي ونصوم ، وعليك المعول ، وأنت المبدأ الأول ، سبحانك سبحانك .