[ ص: 220 ] سورة الجاثية
ثلاثون وسبع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون )
بسم الله الرحمن الرحيم
(
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في قوله : (
حم تنزيل الكتاب ) وجوها :
الأول : أن يكون (
حم ) مبتدأ و (
تنزيل الكتاب ) خبره ، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف ، والتقدير : تنزيل حم ، تنزيل الكتاب ، و (
من الله ) صلة للتنزيل .
الثاني : أن يكون قوله : (
حم ) في تقدير : هذه حم ، ثم نقول : (
تنزيل الكتاب ) واقع من الله العزيز الحكيم .
الثالث : أن يكون (
حم ) قسما ، و (
تنزيل الكتاب ) نعتا له ، وجواب القسم (
إن في السماوات ) والتقدير : وحم الذي هو تنزيل الكتاب أن الأمر كذا وكذا .
المسألة الثانية : قوله : (
العزيز الحكيم ) يجوز جعلهما صفة للكتاب ، ويجوز جعلهما صفة لله تعالى ، إلا أن هذا الثاني أولى ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أنا إذا جعلناهما صفة لله تعالى كان ذلك حقيقة ، وإذا جعلناهما صفة للكتاب كان ذلك مجازا ، والحقيقة أولى من المجاز .
الثاني : أن زيادة القرب توجب
[ ص: 221 ] الرجحان .
الثالث : أنا إذا جعلنا العزيز الحكيم صفة لله كان ذلك إشارة إلى الدليل الدال على أن
القرآن حق ، لأن كونه عزيزا يدل على كونه قادرا على كل الممكنات ، وكونه حكيما يدل على كونه عالما بجميع المعلومات غنيا عن كل الحاجات ، ويحصل لنا من مجموع كونه تعالى : (
عزيزا حكيما ) كونه قادرا على جميع الممكنات ، عالما بجميع المعلومات ، غنيا عن كل الحاجات ، وكل ما كان كذلك امتنع منه صدور العبث والباطل ، وإذا كان كذلك كان ظهور المعجز دليلا على الصدق ، فثبت أنا إذا جعلنا كونه عزيزا حكيما صفتين لله تعالى يحصل منه هذه الفائدة ، وأما إذا جعلناهما صفتين للكتاب لم يحصل منه هذه الفائدة ، فكان الأول أولى ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : (
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) ، وفيه مباحث :
البحث الأول : أن قوله : (
إن في السماوات والأرض لآيات ) يجوز إجراؤه على ظاهره ، لأنه حصل
في ذوات السماوات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل : مقاديرها وكيفياتها وحركاتها ، وأيضا الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار موجودة في السماوات والأرض وهي آيات ، ويجوز أن يكون المعنى : ( إن في خلق السماوات والأرض ) كما صرح به في سورة البقرة في قوله : (
إن في خلق السماوات والأرض ) [ البقرة : 164 ] ، وهو يدل على وجود القادر المختار في تفسير قوله : (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) [ الأنعام : 1 ] .
البحث الثاني : قد ذكرنا الوجوه الكثيرة في دلالة السماوات والأرض على وجود الإله القادر المختار في تفسير قوله : (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) ولا بأس بإعادة بعضها ، فنقول : إنها تدل على وجود الإله من وجوه :
الأول : أنها أجسام لا تخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فهذه الأجسام حادثة ، وكل حادث فله محدث .
الثاني : أنها مركبة من الأجزاء وتلك الأجزاء متماثلة ، لما بينا أن الأجسام متماثلة ، وتلك الأجزاء وقع بعضها في العمق دون السطح ، وبعضها في السطح دون العمق ، فيكون وقوع كل جزء في الموضع الذي وقع فيه من الجائزات ، وكل جائز فلا بد له من مرجح ومخصص .
الثالث : أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في تمام الماهية الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية ، فيكون ذلك أمرا جائزا ولا بد لها من مرجح .
الرابع : أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل : كمودة زحل ، وبياض المشتري ، وحمرة المريخ ، والضوء الباهر للشمس ، ودرية الزهرة ، وصفرة عطارد ، ومحو القمر ، وأيضا فبعضها سعيدة ، وبعضها نحسة ، وبعضها نهاري ذكر ، وبعضها ليلي أنثى ، وقد بينا أن الأجسام في ذواتها متماثلة ، فوجب أن يكون اختلاف الصفات لأجل أن الإله القادر المختار خصص كل واحد منها بصفته المعينة .
الخامس : أن كل فلك فإنه مختص بالحركة إلى جهة معينة ، ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء ، وكل ذلك أيضا من الجائزات ، فلا بد من الفاعل المختار .
السادس : أن كل فلك مختص بشيء معين ، وكل ذلك أيضا من الجائزات ، فلا بد من الفاعل المختار ، وتمام الوجوه مذكور في تفسير تلك الآيات .
البحث الثالث : قوله : (
لآيات للمؤمنين ) يقتضي كون هذه الآيات مختصة بالمؤمنين ، وقالت
المعتزلة : إنها آيات للمؤمن والكافر ، إلا أنه لما انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آيات إلى المؤمنين ، ونظيره قوله تعالى : (
هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] ، فإنه هدى لكل الناس كما قال تعالى : (
هدى للناس ) [ البقرة : 185 ] إلا أنه لما انتفع
[ ص: 222 ] بها المؤمن خاصة لا جرم قيل : (
هدى للمتقين ) فكذا ههنا ، وقال الأصحاب : الدليل والآية هو الذي يترتب على معرفته حصول العلم ، وذلك العلم إنما يحصل بخلق الله تعالى لا بإيجاب ذلك الدليل ، والله تعالى إنما خلق ذلك العلم للمؤمن لا للكافر فكان ذلك آية دليلا في حق المؤمن لا في حق الكافر ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : (
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ) ، وفيه مباحث :
البحث الأول : قال صاحب “ الكشاف “ : قوله : (
وما يبث ) عطف على الخلق المضاف لا على الضمير المضاف إليه ، لأن المضاف ضمير متصل مجرور والعطف عليه مستقبح ، فلا يقال : مررت بك وزيد ، ولهذا طعنوا في قراءة
حمزة : ( تساءلون به والأرحام ) بالجر في قوله : [ والأرحام ] ، وكذلك إن الذين استقبحوا هذا العطف ، فلا يقولون : مررت بك أنت وزيد .
البحث الثاني : قرأ
حمزة والكسائي ( آيات ) بكسر التاء ، وكذلك الذي بعده ( وتصريف الرياح آيات ) والباقون بالرفع فيهما ، أما الرفع فمن وجهين ذكرهما
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد والزجاج وأبو علي :
أحدهما : العطف على موضع إن وما عملت فيه ، لأن موضعهما رفع بالابتداء فيحمل الرفع فيه على الموضع ، كما تقول : إن زيدا منطلق وعمرو ، و (
أن الله بريء من المشركين ورسوله ) [ التوبة : 3 ] لأن معنى قوله : (
أن الله بريء ) أن يقول : الله بريء من المشركين ورسوله .
والوجه الثاني : أن يكون قوله : (
وفي خلقكم ) مستأنفا ، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة أخرى كما تقول : إن زيدا منطلق وعمرو كاتب ، جعلت قولك : وعمرو كاتب كلاما آخر ، كما تقول : زيد في الدار وأخرج غدا إلى بلد كذا ، فإنما حدثت بحديثين ووصلت أحدهما بالآخر بالواو ، وهذا الوجه هو اختيار أبي الحسن والفراء .
وأما وجه القراءة بالنصب فهو بالعطف على قوله : (
إن في السماوات ) على معنى ( وإن في خلقكم لآيات ) ويقولون : هذه القراءة إنها في قراءة
أبي وعبد الله ( لآيات ) ، ودخول اللام يدل على أن الكلام محمول على إن .
البحث الثالث : قوله : (
وفي خلقكم ) معناه خلق الإنسان ، وقوله : (
وما يبث من دابة ) إشارة إلى
خلق سائر الحيوانات ، ووجه دلالتها على وجود الإله القادر المختار أن الأجسام متساوية ، فاختصاص كل واحد من الأعضاء بكونه المعين وصفته المعينة وشكله المعين ، لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار ، ويدخل في هذا الباب انتقاله من سن إلى سن آخر ومن حال إلى حال آخر ، والاستقصاء في هذا الباب قد تقدم .
ثم قال تعالى : (
واختلاف الليل والنهار ) وهذا الاختلاف يقع على وجوه :
أحدها : تبدل النهار بالليل وبالضد منه .
وثانيها : أنه تارة يزداد طول النهار على طول الليل وتارة بالعكس ، وبمقدار ما يزداد في النهار الصيفي يزداد في الليل الشتوي .
وثالثها : اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة .
ثم قال تعالى : (
وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ) وهو يدل على القول بالفاعل المختار من وجوه :
أحدها :
إنشاء السحاب وإنزال المطر منه .
وثانيها : تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض .
وثالثها : تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة وأغصانها وأوراقها وثمارها ، ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطا باللب كالجوز واللوز ، ومنها ما يكون اللب محيطا بالقشر كالمشمش والخوخ ، ومنها ما يكون خاليا عن القشر كالتين ، فتولد أقسام النبات على كثرة أصنافها وتباين أقسامها يدل على صحة القول بالفاعل المختار الحكيم الرحيم .
[ ص: 223 ] ثم قال : (
وتصريف الرياح ) وهي تنقسم إلى أقسام كثيرة بحسب تقسيمات مختلفة فمنها المشرقية والمغربية والشمالية والجنوبية ، ومنها الحارة والباردة ، ومنها الرياح النافعة والرياح الضارة ، ولما ذكر الله تعالى هذه الأنواع الكثيرة من الدلائل قال : إنها (
آيات لقوم يعقلون ) .
واعلم أن الله تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال : (
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) [ البقرة : 164 ] ، فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل ، والتفاوت بين الموضعين من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال في سورة البقرة : (
إن في خلق السماوات والأرض ) ، وقال ههنا : (
إن في السماوات ) ، والصحيح عند أصحابنا أن الخلق عين المخلوق ، وقد ذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ولم يذكره في هذه السورة تنبيها على أنه لا يتفاوت بين أن يقال : السماوات وبين أن يقال : خلق السماوات فيكون هذا دليلا على أن الخلق عين المخلوق .
الثاني : أنه ذكر هناك ثمانية أنواع من الدلائل ، وذكر ههنا ستة أنواع وأهمل منها الفلك والسحاب ، والسبب أن مدار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة ، فذكر الرياح الذي هو كالسبب يغني عن ذكرهما .
والتفاوت الثالث : أنه جمع الكل وذكر لها مقطعا واحدا ، وههنا رتبها على ثلاثة مقاطع ، والغرض التنبيه على أنه لا بد من إفراد كل واحد منها بنظر تام شاف .
الرابع : أنه تعالى ذكر في هذا الموضع ثلاثة مقاطع: أولها : يؤمنون ، وثانيها : يوقنون ، وثالثها : يعقلون ، وأظن أن سبب هذا الترتيب أنه قيل : إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل .
واعلم أن كثيرا من الفقهاء يقولون : إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون ، بل ليس فيه إلا ما يتعلق بالأحكام والفقه ، وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام ، وفيه سور كثيرة خصوصا المكيات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة ، وكل ذلك من علوم الأصوليين ، ومن تأمل علم أنه
ليس في يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال .