(
الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون )
قوله تعالى : (
الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ) .
اعلم أنه تعالى ذكر الاستدلال بكيفية
جريان الفلك على وجه البحر ، وذلك لا يحصل إلا بسبب تسخير ثلاثة أشياء :
أحدها : الرياح التي تجري على وفق المراد .
ثانيها : خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك .
ثالثها : خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه .
وهذه الأحوال الثلاثة لا يقدر عليها واحد من البشر ، فلا بد من موجد قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى ، وقوله : (
ولتبتغوا من فضله ) معناه : إما بسبب التجارة ، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، أو لأجل استخراج اللحم الطري .
[ ص: 226 ] ثم قال تعالى : (
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) ، والمعنى لولا أن
الله تعالى أوقف أجرام السماوات والأرض في مقارها وأحيازها لما حصل الانتفاع ، لأن بتقدير كون الأرض هابطة أو صاعدة لم يحصل الانتفاع بها ، وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل الانتفاع ، وكل ذلك قد بيناه ، فإن قيل : ما معنى (
منه ) في قوله : (
جميعا منه ) ؟ قلنا : معناه : أنها واقعة موقع الحال ، والمعنى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه ، قال صاحب “ الكشاف “ : قرأ
سلمة بن محارب ( منه ) على أن يكون منه فاعل سخر على الإسناد المجازي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك منه ، أو هو منه .
واعلم أنه تعالى لما علم عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ، أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة بقوله : (
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) والمراد بالذين لا يرجون أيام الله الكفار ، واختلفوا في سبب نزول الآية ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : (
قل للذين آمنوا ) يعني
عمر ، (
يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) يعني
عبد الله بن أبي ، وذلك أنهم نزلوا في غزوة
بني المصطلق على بئر يقال لها :
المريسيع ، فأرسل
عبد الله غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه ، فلما أتاه قال له : ما حبسك ؟ قال : غلام
عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرب
أبي بكر ، وملأ لمولاه ، فقال
عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك ، فبلغ قوله
عمر ، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه ، فأنزل الله هذه الآية . وقال
مقاتل : شتم رجل من كفار
قريش عمر بمكة ، فهم أن يبطش به فأمر الله بالعفو والتجاوز ، وأنزل هذه الآية .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران أن فنحاص اليهودي لما أنزل الله قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) [ البقرة : 245 ] ، قال : احتاج رب محمد ، فسمع بذلك عمر فاشتمل على سيفه ، وخرج في طلبه ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبه حتى رده .
وقوله : (
للذين لا يرجون أيام الله ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لا يرجون ثواب الله ، ولا يخافون عقابه ، ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية ، وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله : (
وذكرهم بأيام الله ) وأكثر المفسرين يقولون : إنه منسوخ ، وإنما قالوا ذلك لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يقتلوا ، فلما أمر الله بهذه المقاتلة كان نسخا ، والأقرب أن يقال : إنه محمول على
ترك المنازعة في المحقرات ، وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية والأفعال الموحشة .
ثم قال تعالى : (
ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ) أي لكي يجازي بالمغفرة قوما يعملون الخير ، فإن قيل : ما الفائدة في التنكير في قوله : (
ليجزي قوما ) مع أن المراد بهم هم المؤمنون المذكورون في قوله : (
قل للذين آمنوا ) ؟ .
قلنا : التنكير يدل على تعظيم شأنهم كأنه قيل : ليجزي قوما وأي قوم من شأنهم
الصفح عن السيئات والتجاوز عن المؤذيات وتحمل الوحشة وتجرع المكروه ، وقال آخرون : معنى الآية : قل للمؤمنين يتجاوزوا عن الكفار ، ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم ، كأنه قيل لهم : لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن ، ثم ذكر الحكم العام فقال : (
من عمل صالحا فلنفسه ) وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون ، (
ومن أساء فعليها ) مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل ، فبين تعالى أن
العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله ، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله ، وأنه تعالى أمر بهذا ونهى عن ذلك لحظ العبد لا لنفع يرجع إليه ، وهذا
ترغيب منه في العمل الصالح وزجر عن العمل الباطل .