المسألة الرابعة :
قوله تعالى : ( أوزعني ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس معناه ألهمني ، قال صاحب "الصحاح" : أوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به أي مغرى به ، واستوزعت الله شكره فأوزعني أي : استلهمته فألهمني .
المسألة الخامسة : اعلم أنه تعالى حكى عن هذا الداعي أنه طلب من الله تعالى ثلاثة أشياء : أحدها : أن يوفقه الله للشكر على نعمه .
والثاني : أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند الله .
الثالث : أن يصلح له في ذريته ، وفي ترتيب هذه الأشياء الثلاثة على الوجه المذكور وجهان :
الأول : أنا بينا أن مراتب السعادات ثلاثة : أكملها النفسانية ، وأوسطها البدنية ، وأدونها الخارجية ، والسعادات النفسانية : هي اشتغال القلب بشكر آلاء الله ونعمائه ، والسعادات البدنية : هي اشتغال البدن بالطاعة والخدمة ، والسعادات الخارجية : هي سعادة الأهل والولد ، فلما كانت المراتب محصورة في هذه الثلاثة لا جرم رتبها الله تعالى على هذا الوجه .
والسبب الثاني : لرعاية هذا الترتيب أنه تعالى قدم الشكر على العمل ، لأن الشكر من أعمال القلوب ، والعمل من أعمال الجوارح ، وعمل القلب أشرف من عمل الجارحة ، وأيضا المقصود من الأعمال الظاهرة أحوال القلب قال تعالى : (
وأقم الصلاة لذكري ) [طه : 14] بين أن الصلاة مطلوبة لأجل أنها تفيد الذكر ، فثبت أن
أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، والأشرف يجب تقديمه في الذكر ، وأيضا الاشتغال بالشكر اشتغال بقضاء حقوق النعم الماضية ، والاشتغال بالطاعة الظاهرة اشتغال بطلب النعم المستقبلة ، وقضاء الحقوق الماضية يجري مجرى قضاء الدين ، وطلب المنافع المستقبلة طلب للزوائد . ومعلوم أن قضاء الدين مقدم على سائر المهمات ، فلهذا السبب قدم الشكر على سائر الطاعات ، وأيضا فإنه قدم طلب التوفيق على الشكر وطلب التوفيق على الطاعة على طلب أن يصلح له ذريته ، وذلك لأن المطلوبين الأولين اشتغال بالتعظيم لأمر الله ، والمطلوب الثالث اشتغال بالشفقة على خلق الله ، ومعلوم أن التعظيم لأمر الله يجب تقديمه على الشفقة على خلق الله .
المسألة السادسة : قال أصحابنا : إن العبد طلب من الله تعالى أن يلهمه الشكر على نعم الله ، وهذا يدل
[ ص: 19 ] على أنه
لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة الله تعالى ، ولو كان العبد مستقلا بأفعاله لكان هذا الطلب عبثا ، وأيضا المفسرون قالوا : المراد من قوله : (
أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ) هو الإيمان ، أو الإيمان يكون داخلا فيه ، والدليل عليه قوله تعالى : (
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) [الفاتحة : 6 ، 7] والمراد صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا فنقول :
العبد يشكر الله على نعمة الإيمان ، فلو كان الإيمان من العبد لا من الله لكان ذلك شكرا لله تعالى على فعله لا على فعل غيره ، وذلك قبيح لقوله تعالى : (
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) [آل عمران : 188] فإن قيل : فهب أن يشكر الله على ما أنعم به عليه فكيف يشكره على النعم التي أنعم بها على والديه؟ وإنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم ، قلنا : كل نعمة وصلت من الله تعالى إلى والديه ، فقد وصل منها أثر إليه فلذلك وصاه الله تعالى على أن يشكر ربه على الأمرين .
وأما المطلوب الثاني : من المطالب المذكورة في هذا الدعاء ، فهو قوله : (
وأن أعمل صالحا ترضاه ) .
واعلم أن الشيء الذي يعتقد أن الإنسان فيه كونه صالحا على قسمين :
أحدهما : الذي يكون صالحا عنده ويكون صالحا أيضا عند الله تعالى .
والثاني : الذي يظنه صالحا ولكنه لا يكون صالحا عند الله تعالى ، فلما قسم الصالح في ظنه إلى هذين القسمين طلب من الله أن يوفقه لأن يأتي بعمل صالح يكون صالحا عند الله ويكون مرضيا عند الله .
والمطلوب الثالث من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : (
وأصلح لي في ذريتي ) لأن ذلك
من أجل نعم الله على الوالد ، كما قال
إبراهيم عليه السلام : (
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) [إبراهيم : 35] فإن قيل : ما معنى : " في" في قوله : (
وأصلح لي في ذريتي ) ؟ قلنا : تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم .