(
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) .
قوله تعالى : (
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) .
واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة وهي : التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره ، فقال تعالى : (
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) أي : أولو الجد والصبر والثبات ، وفي الآية قولان :
الأول : أن تكون كلمة "من" للتبعيض ويراد
بأولو العزم بعض الأنبياء قيل : هم
نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ،
وإبراهيم على النار وذبح الولد ،
وإسحاق على الذبح ،
ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ،
ويوسف على الجب والسجن ،
وأيوب على الضر ،
وموسى قال له قومه : (
إنا لمدركون ) [الشعراء : 61] قال : (
كلا إن معي ربي سيهدين ) [الشعراء : 62]
وداود بكى على زلته أربعين سنة ،
وعيسى لم
[ ص: 31 ] يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقال الله تعالى في
آدم : (
ولم نجد له عزما ) [طه : 115] وفي يونس : (
ولا تكن كصاحب الحوت ) [القلم : 48] .
والقول الثاني : أن كل الرسل أولو عزم ولم يبعث الله رسولا إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال وعقل ، ولفظة "من" في قوله : (
من الرسل ) تبيين لا تبعيض كما يقال : كسيته من الخز وكأنه قيل : اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ، ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم .
ثم قال : (
ولا تستعجل لهم ) ومفعول الاستعجال محذوف ، والتقدير : لا تستعجل لهم بالعذاب ، قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه بعض الضجر ، وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر وترك الاستعجال ، ثم أخبر أن ذلك العذاب منهم قريب ، وأنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وعند نزول ذلك العذاب بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا ، حتى يحسبونها ساعة من نهار ، والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ ، كأنه ساعة من النهار ، أو كأن لم يكن لهول ما عاينوا ، أو لأن الشيء إذا مضى صار كأنه لم يكن ، وإن كان طويلا ، قال الشاعر :
كأن شيئا لم يكن إذا مضى كأن شيئا لم يزل إذا أتى
واعلم أنه تم الكلام ههنا ، ثم قال تعالى : ( بلاغ ) أي : هذا بلاغ ، ونظيره قوله تعالى : (
هذا بلاغ للناس ) [إبراهيم : 52] أي : هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظة أو هذا تبليغ من الرسل ، فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه ، والله أعلم .
قال المصنف رحمه الله تعالى : تم تفسير هذه السورة يوم الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وآله وأصحابه وأزواجه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .