(
والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ) .
ثم قال تعالى : (
والذين كفروا فتعسا لهم ) هذا زيادة في تقوية قلوبهم ، لأنه تعالى لما قال : (
ويثبت أقدامكم ) جاز أن يتوهم أن الكافر أيضا يصير ويثبت للقتال فيدوم القتال والحراب والطعان والضراب ، وفيه المشقة العظيمة فقال تعالى : لكم الثبات ولهم الزوال والتغير والهلاك فلا يكون الثبات ، وسببه ظاهر ؛ لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها ولا ثبات عند من له قدرة ، فهي غير صالحة لدفع ما قدره الله تعالى عليهم من الدمار ، وعند هذا لا بد عن زوال القدم والعثار ، وقال في حق المؤمنين "ويثبت" بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وقال في حقهم بصيغة الدعاء ، وهي أبلغ من صيغة الإخبار من الله ؛ لأن عثارهم واجب ؛ لأن عدم النصرة من آلهتهم واجب الوقوع إذ لا قدرة لها ، والتثبيت من الله ليس بواجب الوقوع ، لأنه قادر مختار يفعل ما يشاء .
وقوله : (
وأضل أعمالهم ) إشارة إلى بيان مخالفة موتاهم لقتلى المسلمين ، حيث قال في حق قتلاهم : (
فلن يضل أعمالهم ) وقال في موتى الكافرين : (
وأضل أعمالهم ) ثم بين الله تعالى سبب ما اختلفوا فيه فقال : (
ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) وفيه وجوه : الأول : المراد القرآن ، ووجهه هو أن
كيفية العمل الصالح لا تعلم بالعقل وإنما تدرك بالشرع ، والشرع بالقرآن ، فلما أعرضوا لم يعرفوا العمل الصالح وكيفية الإتيان به ، فأتوا بالباطل فأحبط أعمالهم .
الثاني : (
كرهوا ما أنزل الله ) من بيان التوحيد كما قال الله تعالى عنهم : (
أئنا لتاركو آلهتنا ) [الصافات : 36] وقال تعالى : (
أجعل الآلهة إلها واحدا ) [ص : 5] إلى أن قال : (
إن هذا إلا اختلاق ) [ص : 7] وقال تعالى : (
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ) [الزمر : 45] ووجهه أن
الشرك محبط للعمل ، قال الله تعالى : (
لئن أشركت ليحبطن عملك ) [الزمر : 65] وكيف لا والعمل من المشرك لا يقع لوجه الله فلا بقاء له في نفسه ولا بقاء له ببقاء من له العمل ؛ لأن ما سوى وجه الله تعالى هالك محبط .
الثالث : (
كرهوا ما أنزل الله ) من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها ، والدنيا وما فيها ومآلها باطل ، فأحبط الله أعمالهم .
[ ص: 44 ] وقوله : (
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) .
فيه مناسبة للوجه الثالث يعني : فينظروا إلى حالهم ويعلموا أن الدنيا فانية .
وقوله : (
دمر الله عليهم ) أي أهلك عليهم متاع الدنيا من الأموال والأولاد والأزواج والأجساد .
وقوله تعالى : (
وللكافرين أمثالها ) يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد لهم أمثالها في الدنيا ، وحينئذ يكون المراد من الكافرين : هم الكافرون
بمحمد عليه الصلاة والسلام .
وثانيهما : أن يكون المراد لهم أمثالها في الآخرة ، فيكون المراد من تقدم كأنه يقول : دمر الله عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها ، وفي العائد إليه ضمير المؤنث في قوله : (
أمثالها ) وجهان :
أحدهما : هو المذكور وهو العاقبة .
وثانيهما : هو المفهوم وهو العقوبة؛ لأن التدمير كان عقوبة لهم ، فإن قيل على قولنا المراد للكافرين
بمحمد عليه السلام أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة ، يرد سؤال وهو أن الأولين أهلكوا بوقائع شديدة كالزلازل والنيران وغيرهما من الرياح والطوفان ، ولا كذلك قوم
محمد صلى الله عليه وسلم ، نقول : جاز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين لكون دين
محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء عليهم السلام عليه وإخبارهم عنه وإنذارهم به ، على أنهم قتلوا وأسروا بأيديهم من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم ، والقتل بيد المثل آلم من الهلاك بسبب عام ، "وسؤال آخر" : إذا كان الضمير عائدا إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال ؟ قلنا : يجوز أن يقال : المراد العذاب الذي هو مدلول العاقبة أو الألم الذي كانت العاقبة عليه .
ثم قال تعالى : (
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ) .
" ذلك " يحتمل أن يكون إشارة إلى النصر وهو اختيار جماعة ، ذكره
الواحدي ، ويحتمل وجها آخر أغرب من حيث النقل ، وأقرب من حيث العقل ، وهو أنا لما بينا أن قوله تعالى : (
وللكافرين أمثالها ) إشارة إلى أن قوم
محمد عليه الصلاة والسلام أهكلوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وهو آلم من الهلاك بالسبب العام ، قال تعالى : " ذلك " أي الإهلاك والهوان بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين ، والكافرون اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر ، وتركوا الله فلا ناصر لهم ، ولا شك أن من ينصره الله تعالى يقدر على القتل والأسر وإن كان له ألف ناصر فضلا عن أن يكون لا ناصر لهم ، فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (
لا مولى لهم ) وبين قوله : (
مولاهم الحق ) [الأنعام : 62] نقول : المولى ورد بمعنى السيد والرب والناصر ، فحيث قال : (
لا مولى لهم ) أراد لا ناصر لهم ، وحيث قال : (
مولاهم الحق ) أي ربهم ومالكهم ، كما قال : (
ياأيها الناس اتقوا ربكم ) [لقمان : 33] وقال : (
ربكم ورب آبائكم الأولين ) [الدخان : 8] وفي الكلام تباين عظيم بين الكافر والمؤمن لأن
المؤمن ينصره الله وهو خير الناصرين ، والكافر لا مولى له بصيغة نافية للجنس ، فليس له ناصر وإنه شر الناصرين .