(
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) .
ثم قال تعالى : (
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) .
[ ص: 45 ] لما بين الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال : إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
كثيرا ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة ؛ لأن الأنهار يتبعها الأشجار ، والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم ، والنار سبب الإعدام ، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به ، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها .
المسألة الثانية : ذكرنا مرارا أن "من" في قوله : (
من تحتها الأنهار ) يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار ، ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر ، فيقال : هذا النهر منبعه من أين ؟ يقال : من عين كذا من تحت جبل كذا .
المسألة الثالثة : قال : (
والذين كفروا يتمتعون ) خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضا له التمتع بالدنيا وطيباتها ، نقول : من يكون له ملك عظيم ويملك شيئا يسيرا أيضا لا يذكر إلا بالملك العظيم ، يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئا يسيرا فلا يذكر إلا به ، فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا .
ووجه آخر :
الدنيا للمؤمن سجن كيف كان ، ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع ، فإن قيل : كيف تكون الدنيا سجنا مع ما فيها من الطيبات ؟ نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال ، وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها ، وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها ، فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة ، وفيها سباع وحشرات كثيرة ، فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا ؟ وهل يجوز أن يقال له : اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا ؟
كذلك حال المؤمن ، وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياما في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها ، يكون في جنة ؟ ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال ، لكنه ينبئ ذا البال عن حقيقة الحال .
وقوله تعالى : (
كما تأكل الأنعام ) يحتمل وجوها :
أحدها : أن
الأنعام يهمها الأكل لا غير ، والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحا ويقوى عليه .
وثانيها : الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك .
وثالثها : الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر ، لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك ، وكذلك الكافر ، ويناسب ذلك قوله تعالى : (
والنار مثوى لهم ) .
المسألة الرابعة : قال في حق المؤمن : (
إن الله يدخل ) بصيغة الوعد ، وقال في حق الكافر : (
والنار مثوى لهم ) بصيغة تنبئ عن الاستحقاق ، لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق ، فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم ، والمعذب من غير استحقاق ظالم .