(
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )
ثم قال تعالى : (
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا )
لما بين الله تعالى حال الكافر ذكر
حال المنافق بأنه من الكفار ، وقوله : ( ومنهم ) يحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى الناس ، كما قال تعالى في سورة البقرة : (
ومن الناس من يقول آمنا بالله ) [البقرة : 8] بعد ذكر الكفار ، ويحتمل أن يكون راجعا إلى
أهل مكة ، لأن ذكرهم سبق في قوله تعالى : (
هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم ) ويحتمل أن يكون راجعا إلى معنى قوله : (
كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما ) يعني : ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك ، وقوله : (
حتى إذا خرجوا من عندك ) على ما ذكرنا حمل على المعنى الذي هو الجمع ، و : ( يستمع ) حمل على اللفظ ، وقد سبق التحقيق فيه ، وقوله : ( حتى ) للعطف في قول المفسرين ، وعلى هذا فالعطف بحتى لا يحسن إلا إذا كان المعطوف جزءا من المعطوف عليه إما أعلاه أو دونه ، كقول القائل : أكرمني الناس حتى الملك ، وجاء الحاج حتى المشاة ، وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف عليه من حيث المعنى ، ولا يشترط في العطف بالواو ذلك ، فيجوز أن تقول في الواو : جاء الحاج وما علمت ، ولا يجوز مثل ذلك في حتى ، إذا علمت هذا فوجه التعلق ههنا هو أن قوله :
[ ص: 51 ] : (
حتى إذا خرجوا من عندك ) يفيد معنى زائدا في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعا بالغا جيدا ، لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلم الطالب للتفهم ، فإن قلت فعلى هذا يكون هذا صفة مدح لهم ، وهو ذكرهم في معرض الذم ، نقول : يتميز بما بعده ، وهو أحد أمرين : إما كونهم بذلك مستهزئين ، كالذكي يقول للبليد : أعد كلامك حتى أفهمه ، ويرى في نفسه أنه مستمع إليه غاية الاستماع ، وكل أحد يعلم أنه مستهزئ غير مستفيد ولا مستعيد ، وإما كونهم لا يفهمون مع أنهم يستمعون ويستعيدون ، ويناسب هذا الثاني قوله تعالى : (
كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ) [الأعراف : 101] ، والأول يؤكده قوله تعالى : (
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) [البقرة : 14] .
والثاني يؤكده قوله تعالى : (
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) [الحجرات : 14] وقوله : (
آنفا ) قال بعض المفسرين : معناه الساعة ، ومنه الاستئناف وهو الابتداء ، فعلى هذا فالأولى أن يقال : يقولون ماذا قال آنفا بمعنى أنهم يستعيدون كلامه من الابتداء ، كما يقول المستعيد للمعيد : أعد كلامك من الابتداء حتى لا يفوتني شيء منه .
ثم قال تعالى : (
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) .
أي تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم ، أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة واتبعوا ضده ثم قال تعالى : (
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) .
لما بين الله تعالى أن
المنافق يستمع ولا ينتفع ، ويستعيد ولا يستفيد ، بين أن حال المؤمن المهتدي بخلافه ، فإنه يستمع فيفهم ، ويعمل بما يعلم ، والمنافق يستعيد ، والمهتدي يفسر ويعيد ، وفيه فائدتان إحداهما : ما ذكرنا من بيان التباين بين الفريقين .
وثانيهما :
قطع عذر المنافق وإيضاح كونه مذموم الطريقة ، فإنه لو قال ما فهمته لغموضه وكونه معمى ، يرد عليه ويقول ليس كذلك ، فإن المهتدي فهم واستنبط لوازمه وتوابعه ، فذلك لعماء القلوب ، لا لخفاء المطلوب .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفاعل للزيادة في قوله : (
زادهم ) ؟ نقول فيه وجوه :
الأول : المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الله وكلام الرسول يدل عليه قوله : (
ومنهم من يستمع إليك ) [الأنعام : 25] فإنه يدل على مسموع ، والمقصود بيان التباين بين الفريقين ، فكأنه قال : هم لم يفهموه ، وهؤلاء فهموه .
والثاني : أن الله تعالى زادهم ويدل عليه قوله تعالى : (
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ) وكأنه تعالى طبع على قلوبهم فزادهم عمى ، والمهتدي زاده هدى .
والثالث : استهزاء المنافق زاد المهتدي هدى ، ووجهه أنه تعالى لما قال : (
واتبعوا أهواءهم ) قال : (
والذين اهتدوا زادهم ) اتباعهم الهدى هدى ، فإنهم استقبحوا فعلهم فاجتنبوه .
المسألة الثانية : ما معنى قوله : (
والذين اهتدوا ) ؟ نقول فيه وجوه منقولة ومستنبطة ، أما المنقولة فنقول : قيل فيه : إن المراد آتاهم ثواب تقواهم ، وقيل : آتاهم نفس تقواهم من غير إضمار ، يعني بين لهم التقوى ، وقيل آتاهم توفيق العمل بما عملوا . وأما المستنبط فنقول : يحتمل أن يكون المراد به بيان حال
[ ص: 52 ] المستمعين للقرآن الفاهمين لمعانيه المفسرين له بيانا لغاية الخلاف بين المنافق ، فإنه استمع ولم يفهمه ، واستعاد ولم يعلمه ، والمهتدي فإنه علمه وبينه لغيره ، ويدل عليه قوله تعالى : (
زادهم هدى ) ولم يقل : اهتداء ، والهدى مصدر من هدى ، قال الله تعالى : (
فبهداهم اقتده ) [الأنعام : 90] أي خذ بما هدوا واهتد كما هدوا ، وعلى هذا فقوله تعالى : (
والذين اهتدوا ) معناه جنبهم عن القول في القرآن بغير برهان ، وحملهم على الاتقاء من التفسير بالرأي ، وعلى هذا فقوله : (
زادهم هدى ) معناه كانوا مهتدين فزادهم على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ويحتمل أن يقال : قوله : (
زادهم هدى ) إشارة إلى العلم : (
والذين اهتدوا ) إشارة إلى الأخذ بالاحتياط فيما لم يعلموه ، وهو مستنبط من قوله تعالى : (
فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [الزمر : 17 ، 18] وقوله : (
والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) [آل عمران : 7] .
المعنى الثالث : يحتمل أن يكون المراد بيان أن المخلص على خطر فهو أخشى من غيره ، وتحقيقه هو أنه لما قال : (
زادهم هدى ) أفاد أنهم ازداد علمهم ، وقال تعالى : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [فاطر : 28] فقال آتاهم خشيتهم التي يفيدها العلم .
والمعنى الرابع : تقواهم من يوم القيامة كما قال تعالى : (
ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ) [لقمان : 33] ويدل عليه قوله تعالى : (
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ) [محمد : 18] كأن ذكر الساعة عقيب التقوى يدل عليه .
المعنى الخامس : آتاهم تقواهم ،
التقوى التي تليق بالمؤمن ، وهي التقوى التي لا يخاف معها لومة لائم .
ثم قال تعالى : (
الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ) [الأحزاب : 39] وكذلك قوله تعالى : (
ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [الأحزاب : 1] وهذا الوجه مناسب لأن الآية لبيان تباين الفريقين ، وهذا يحقق ذلك من حيث إن المنافق كان يخشى الناس وهم الفريقان المؤمنون والكافرون ، فكان يتردد بينهما ويرضي الفريقين ويسخط الله فقال الله تعالى : المؤمن المهتدي بخلاف المنافق حيث علم ذلك واتقى الله لا غير ، واتقى ذلك غير الله .