(
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ) .
[ ص: 70 ] ثم قال تعالى : (
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ) .
لما قال تعالى : (
وينصرك الله ) بين وجه النصر ، وذلك لأن
الله تعالى قد ينصر رسله بصيحة يهلك بها أعداءهم ، أو رجفة تحكم عليهم بالفناء ، أو جند يرسله من السماء ، أو نصر وقوة وثبات قلب يرزق المؤمنين به ، ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل فقال : (
هو الذي أنزل السكينة ) أي تحقيقا للنصر ، وفي السكينة وجوه :
أحدها : هو السكون .
الثاني : الوقار لله ولرسول الله وهو من السكون .
الثالث : اليقين والكل من السكون وفيه مسائل :
المسألة الأولى : السكينة هنا غير السكينة في قوله تعالى : (
إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ) [البقرة : 248] في قول أكثر المفسرين ويحتمل هي تلك المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلوب .
المسألة الثانية : السكينة المنزلة عليهم هي سبب ذكرهم الله كما قال تعالى : (
ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [الرعد : 28] .
المسألة الثالثة : قال الله تعالى في حق الكافرين : (
وقذف في قلوبهم ) [الأحزاب : 26] بلفظ القذف المزعج وقال في حق المؤمنين : (
أنزل السكينة ) بلفظ الإنزال المثبت ، وفيه معنى حكمي وهو أن من علم شيئا من قبل وتذكره واستدام تذكره فإذا وقع لا يتغير ، ومن كان غافلا عن شيء فيقع دفعة يرجف فؤاده ، ألا ترى أن من أخبر بوقوع صيحة وقيل له لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يرجف ، ومن لم يخبر بها أو أخبر وغفل عنها يرتجف إذا وقعت ، فكذلك الكافر أتاه الله من حيث لا يحتسب وقذف في قلبه فارتجف ، والمؤمن أتاه من حيث كان يذكره فسكن .
وقوله تعالى : (
ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) فيه وجوه :
أحدها : أمرهم بتكاليف شيء بعد شيء فآمنوا بكل واحد منها ، مثلا أمروا بالتوحيد فآمنوا وأطاعوا ، ثم أمروا بالقتال والحج فآمنوا وأطاعوا ، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم .
ثانيها : أنزل السكينة عليهم فصبروا فرأوا عين اليقين بما علموا من النصر علم اليقين إيمانا بالغيب فازدادوا إيمانا مستفادا من الشهادة مع إيمانهم المستفاد من الغيب . ثالثها : ازدادوا بالفروع مع إيمانهم بالأصول ، فإنهم آمنوا بأن
محمدا رسول الله وأن الله واحد والحشر كائن وآمنوا بأن كل ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم صدق وكل ما يأمر الله تعالى به واجب . رابعها : ازدادوا إيمانا استدلاليا مع إيمانهم الفطري ، وعلى هذا الوجه نبين لطيفة وهي أن الله تعالى قال في حق الكافر : (
إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [آل عمران : 178] ولم يقل مع كفرهم لأن كفرهم عنادي وليس في الوجود كفر فطري لينضم إليه الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عناديا ، وكذلك الكفر بالفروع لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد فقال : (
ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) وقوله : (
ولله جنود السماوات والأرض ) فكان قادرا على إهلاك عدوه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل
أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب ، وفي جنود السماوات والأرض وجوه :
أحدها : ملائكة السماوات والأرض
ثانيها : من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الحيوانات والجن .
وثالثها : الأسباب السماوية والأرضية حتى يكون
[ ص: 71 ] سقوط كسف من السماء والخسف من جنوده .
وقوله تعالى : (
وكان الله عليما حكيما ) لما قال : (
ولله جنود السماوات والأرض ) وعددهم غير محصور ، أثبت العلم إشارة إلى أنه : (
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [سبأ : 3] وأيضا لما ذكر أمر القلوب بقوله : (
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ) والإيمان من عمل القلوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يعلم السر وأخفى ، وقوله : ( حكيما ) بعد قوله : ( عليما ) إشارة إلى أنه يفعل على وفق العلم فإن الحكيم من يعمل شيئا متقنا ويعلمه ، فإن من يقع منه صنع عجيب اتفاقا لا يقال له حكيم ومن يعلم ويعمل على خلاف العلم لا يقال له حكيم .