(
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) .
ثم قال تعالى : (
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) .
قال المفسرون : " شاهدا " على أمتك بما يفعلون كما قال تعالى : (
ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [البقرة : 143] والأولى أن يقال : إن الله تعالى قال : (
إنا أرسلناك شاهدا ) [الفتح : 8] وعليه يشهد أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى : (
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) [آل عمران : 18] وهم الأنبياء عليهم السلام ، الذين آتاهم الله علما من عنده وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ولذلك قال تعالى : (
فاعلم أنه لا إله إلا الله ) أي فاشهد وقوله : (
ومبشرا ) لمن قبل شهادته وعمل بها ويوافقه فيها : ( ونذيرا ) لمن رد شهادته ويخالفه فيها .
ثم بين
فائدة الإرسال على الوجه الذي ذكره فقال : (
لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) وهذا يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون الأمور الأربعة المذكورة مرتبة على الأمور المذكورة من قبل ، فقوله : (
لتؤمنوا بالله ورسوله ) مرتب على قوله : (
إنا أرسلناك ) لأن كونه مرسلا من الله يقتضي أن يؤمن المكلف بالله المرسل وبالمرسل ، وقوله : (
شاهدا ) يقتضي أن يعزر الله ويقوي دينه لأن قوله : (
شاهدا ) على ما بينا معناه أنه يشهد أنه لا إله إلا هو فدينه هو الحق وأحق أن يتبع ، وقوله : (
ومبشرا ) يقتضي أن يوقر الله لأن تعظيم الله عنده على شبه تعظيم الله إياه . وقوله : (
ونذيرا ) يقتضي أن ينزه عن السوء والفحشاء مخافة عذابه الأليم وعقابه الشديد ، وأصل الإرسال مرتب على أصل الإيمان ووصف الرسول يترتب عليه وصف المؤمن .
وثانيهما : أن يكون كل واحد مقتضيا للأمور الأربعة فكونه مرسلا
يقتضي أن يؤمن المكلف بالله ورسوله [ ص: 75 ] ويعزره ويوقره ويسبحه ، وكذلك كونه : (
شاهدا ) بالوحدانية يقتضي الأمور المذكورة ، وكذلك كونه : (
ومبشرا ونذيرا ) لا يقال : إن اقتران اللام بالفعل يستدعي فعلا مقدما يتعلق به ولا يتعلق بالوصف ، وقوله : (
لتؤمنوا ) يستدعي فعلا وهو قوله : (
إنا أرسلناك ) فكيف تترتب الأمور على كونه : (
شاهدا ومبشرا ) ؟ لأنا نقول : يجوز الترتيب عليه معنى لا لفظا ، كما أن القائل إذا قال : بعثت إليك عالما لتكرمه فاللفظ ينبئ عن كون البعث سبب الإكرام ، وفي المعنى كونه عالما هو السبب للإكرام ، ولهذا لو قال بعثت إليك جاهلا لتكرمه كان حسنا ، وإذا أردنا الجمع بين اللفظ والمعنى نقول : الإرسال الذي هو إرسال حال كونه شاهدا كما تقول : بعث العالم سبب جعله سببا لا مجرد البعث ولا مجرد العالم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال في الأحزاب : (
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) [الأحزاب : 45 ، 46] وههنا اقتصر على الثلاثة من الخمسة فما الحكمة فيه ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن ذلك المقام كان مقام ذكره ؛ لأن أكثر السورة في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد والدخول ففصل هنالك ، ولم يفصل ههنا . ثانيهما : أن نقول : الكلام مذكور ههنا لأن قوله : (
شاهدا ) لما لم يقتض أن يكون داعيا لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ، ولا يدعو الناس قال هناك وداعيا لذلك ، وههنا لما لم يكن كونه : (
شاهدا ) منبئا عن كونه داعيا قال : (
لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه ) دليل على كونه سراجا لأنه أتى بما يجب من التعظيم والاجتناب عما يحرم من السوء والفحشاء بالتنزيه وهو التسبيح .
المسألة الثانية : قد ذكرنا مرارا أن اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة ، ويحتمل أن يكون أمرا بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في
الكعبة بكرة وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر .
المسألة الثالثة : الكنايات المذكورة في قوله تعالى : (
وتعزروه وتوقروه وتسبحوه ) راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ والأصح هو الأول .