[ ص: 95 ] [ سورة الحجرات ]
ثماني عشرة آية مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )
بسم الله الرحمن الرحيم
(
ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) .
في بيان حسن الترتيب وجوه :
أحدها : أن في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميل إلى الامتناع ، مما أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصلح وترك آية التسمية والرسالة ، وألزمهم كلمة التقوى ، كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم على سبيل العموم :
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا تتجاوزوا ما يأمر الله تعالى ورسوله .
الثاني : هو أن الله تعالى لما بين محل النبي عليه الصلاة والسلام وعلو درجته بكونه رسوله الذي يظهر دينه ، وذكره بأنه رحيم بالمؤمنين بقوله : (
رحيم ) [ التوبة : 128 ] قال : لا تتركوا من احترامه شيئا لا بالفعل ولا بالقول ، ولا تغتروا برأفته ، وانظروا إلى رفعة درجته .
الثالث : هو أن الله تعالى وصف المؤمنين بكونهم أشداء ورحماء فيما بينهم ، راكعين ساجدين ، نظرا إلى جانب الله تعالى ، وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله : (
ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ) [ الفتح : 29 ] فإن الملك العظيم لا يذكر أحدا في غيبته إلا إذا كان عنده محترما ، ووعدهم بالأجر العظيم ، فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انحطاط درجتكم وإحباط حسناتكم ، و (
لا تقدموا ) . وقيل : في سبب نزول الآية وجوه : قيل : نزلت في صوم يوم الشك ، وقيل : نزلت في التضحية قبل صلاة العيد ، وقيل : نزلت في ثلاثة قتلوا اثنين من سليم ظنوهما من
بني عامر ، وقيل : نزلت في جماعة أكثروا من السؤال ، وكان قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفود . والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ، ومنع مطلق يدخل فيه كل إثبات وتقدم واستبداد بالأمر ، وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة ، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : (
لا تقدموا ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون من التقديم الذي هو
[ ص: 96 ] متعد ، وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى : (
يحيي ويميت ) [ البقرة : 258 ] وقول القائل : فلان يعطي ويمنع ، ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين ، وإنما يريد بهما أن له منعا وإعطاء ، كذلك ههنا ، كأنه تعالى يقول : لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلا .
والثاني : أن يكون المفعول الفعل أو الأمر ، كأنه يقول : (
لا تقدموا ) يعني فعلا (
بين يدي الله ورسوله ) أو لا تقدموا أمرا . والثاني : أن يكون المراد (
لا تقدموا ) بمعنى لا تتقدموا ، وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم ، بل المراد : لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال : فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه ، والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدما في الدخول في الأمور العظام ، وفي الذكر عند ذكر الكرام ، وعلى هذا نقول : سواء جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إليه التقديم في قولنا : قدمت زيدا ، فتقديره : لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما ورأيا عنده ، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمرا وفعلا ، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى ، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال ، وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال . وقوله تعالى : (
بين يدي الله ورسوله ) أي بحضرتهما ؛ لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه ، وفي قوله : (
بين يدي الله ورسوله ) فوائد : أحدها : أن قول القائل : فلان بين يدي فلان إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضرا عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان ؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر ، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ؛ ولأن اليدين تنبئ عن القدرة ، يقول القائل : هو بين يدي فلان ، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعا بين يديه ، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم وتقديم النفس ؛ لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم .
وثانيها : ذكر الله إشارة إلى وجوب
احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره ، وذلك لأن احترام الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله ، فقال : (
بين يدي الله ) أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم ، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله . وثالثها : هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله : ( واتقوا ) لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديرا بأن يتقيه ، وقوله تعالى : ( واتقوا الله ) يحتمل أن يكون ذلك عطفا يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل : لا تنم واشتغل ، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر ، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان ، بل المطلوب بذلك الاشتغال ، فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى ، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك ، وهي التي في قول القائل : احترم زيدا واخدمه ، أي ائت بأتم الاحترام ، فكذلك ههنا معناه : لا تتقدموا عنده ، وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا ، بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له ، اتقوا الله واخشوه ، وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام ، وقوله تعالى : ( إن الله سميع عليم ) يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا : آمنا ؛ لأن الخطاب يفهم بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا ) فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة ، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم ، بل ينبغي أن يتم ما في سمعه من قولكم : آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر ، وهو عدم التقدم ، وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى .