[ ص: 97 ] (
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )
ثم قال تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) .
(
لا تقدموا ) نهي عن فعل ينبئ عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند الله ورسوله بالنسبة إليهما وزنا ومقدارا ومدخلا في أمر من أوامرهما ونواهيهما ، وقوله : (
لا ترفعوا ) نهي عن قول ينبئ عن ذلك الأمر ؛ لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتبارا وعظمة ، وفيه مباحث :
البحث الأول : ما الفائدة في إعادة النداء ، وما هذا النمط من الكلامين على قول القائل : (
ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ) ، و (
لا ترفعوا أصواتكم ) ؟ نقول :
في إعادة النداء فوائد خمسة : منها أن يكون في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كما في قول لقمان لابنه : (
يابني لا تشرك بالله ) [ لقمان : 13 ] (
يابني إنها إن تك مثقال حبة ) [ لقمان : 16 ] ، (
يابني أقم الصلاة ) [ لقمان : 17 ] لأن النداء لتنبيه المنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه ، فإعادته تفيد ذلك ، ومنها أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب أولا ؛ فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيد افعل كذا ، وقل كذا يا عمرو ، فإذا أعاده مرة أخرى وقال : يا زيد قل كذا ، يعلم من أول الكلام أنه هو المخاطب ثانيا أيضا ، ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ، وليس الثاني تأكيدا للأول ، كما تقول : يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق ، فإنه لا يحسن أن يقال : يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم ، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين ، وقوله تعالى : (
لا ترفعوا أصواتكم ) يحتمل وجوها : أحدها : أن يكون المراد حقيقته ، وذلك لأن
رفع الصوت دليل قلة الاحتشام وترك الاحترام ، وهذا من مسألة حكمية وهي أن الصوت بالمخارج ، ومن خشي قلبه ارتجف وتضعف حركته الدافعة ، فلا يخرج منه الصوت بقوة ، ومن لم يخف ثبت قلبه وقوي ، فرفع الهواء دليل عدم الخشية .
ثانيها : أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ؛ لأن من يكثر الكلام يكون متكلما عن سكوت الغير ، فيكون في وقت سكوت الغير لصوته ارتفاع ، وإن كان خائفا إذا نظرت إلى حال غيره ، فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي عليه الصلاة والسلام مبلغ ، فالمتكلم عنده إن أراد الإخبار لا يجوز ، وإن استخبر النبي عليه السلام عما وجب عليه البيان ، فهو لا يسكت عما يسأل وإن لم يسأل ، وربما يكون في السؤال حقيدة برد جواب لا يسهل على المكلف الإتيان به ، فيبقى في ورطة العقاب ، ثالثها : أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعا على كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطاب ، كما يقول القائل لغيره : أمرتك مرارا بكذا عندما يقول له صاحبه : مرني بأمر مثله ، فيكون أحد الكلامين أعلى وأرفع من الآخر ، والأول أصح ، والكل يدخل في حكم المراد ؛ لأن المنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام ، ومن بلغ احترامه إلى حيث تنخفض الأصوات عنده من هيبته وعلو مرتبته لا يكثر عنده الكلام ، ولا يرجع المتكلم معه في الخطاب ، وقوله تعالى : (
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) فيه فوائد :
[ ص: 98 ] إحداها : أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصوته ، ولقائل أن يقول : فما منعت من المساواة ، فقال تعالى : (
ولا تجهروا له ) كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم ، بل اجعلوا كلمته عليا .
والثانية : أن هذا أفاد أنه
لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده ؛ لأن العبد داخل تحت قوله : (
كجهر بعضكم لبعض ) لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يجهر العبد للسيد ، وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض ، لا يقال : المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم ، بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبدا وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام ؛ لأنا نقول : ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة ، وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : (
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) [ الأحزاب : 6 ] والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ، ويجب البذل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقي نفسه في التهلكة لإنجاء سيده ، ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية ، وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره ؛ لأن عند خلل القلب مثلا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة ، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضا بخلاف العبد والسيد .
الفائدة الثانية : أن قوله تعالى : (
لا ترفعوا أصواتكم ) لما كان من جنس ( لا تجهروا ) لم يستأنف النداء ، ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلا والآخر قولا استأنف ، كما في قول لقمان : (
يابني لا تشرك ) [ لقمان : 13 ] وقوله : (
يابني أقم الصلاة ) [ لقمان : 17 ] لكون الأول من عمل القلب ، والثاني من عمل الجوارح ، وقوله : (
يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ) [ لقمان : 17 ] من غير استئناف النداء ؛ لأن الكل من عمل الجوارح .
واعلم أنا إن قلنا : المراد من قوله : (
لا ترفعوا أصواتكم ) أي لا تكثروا الكلام فقوله : (
ولا تجهروا ) يكون مجازا عن الإتيان بالكلام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدر ما يؤتى به عند غيره ، أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل ، وكذلك إن قلنا : المراد بالرفع الخطاب ، فالمراد بقوله : ( لا تجهروا ) أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره ، وقوله تعالى : (
أن تحبط أعمالكم ) فيه وجهان مشهوران :
أحدهما : لئلا تحبط .
والثاني : كراهة أن تحبط ، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى : (
يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] وأمثاله ، ويحتمل ههنا وجها آخر ، وهو أن يقال معناه : واتقوا الله واجتنبوا أن تحبط أعمالكم ، والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر ، والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى : ( واتقوا ) وأما المعنى فنقول : قوله : (
أن تحبط ) إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار ، وأنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط ، وقوله تعالى : (
وأنتم لا تشعرون ) إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان ، فإن من ارتكب ذنبا لم يرتكبه في عمره تراه نادما غاية الندامة خائفا غاية الخوف ، فإذا ارتكبه مرارا يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن ، وهذا كان للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها ، وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر
[ ص: 99 ] في المرة الأولى ، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد ، ولا يدري متى كان ذلك ، وعند أي خبر حصل هذا اليقين ، فقوله : (
وأنتم لا تشعرون ) تأكيد للمنع ، أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده ؛ لأن الأمر غير معلوم ، فاحسموا الباب ، وفيه بيان آخر وهو أن
المكلف إذا لم يحترم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه ، لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب ، وهو محبط حابط ، كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ حابط محبط ، والله أعلم .
واعلم أن الله تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة ، وأن يكون أرأف بهم من الوالد ، كما قال : (
واخفض جناحك للمؤمنين ) [ الحجر : 88 ] وقال تعالى : (
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ) [ الكهف : 28 ] وقال : (
ولا تكن كصاحب الحوت ) [ القلم : 48 ] إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر ، فيكون انقيادهم لوجه الله .