(
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )
ثم قال سبحانه وتعالى : (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) .
لما حذر الله المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق ، أشار إلى ما يلزم منه استدراكا لما يفوت ، فقال : فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم ، وآل الأمر إلى
اقتتال طائفتين من المؤمنين ، فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما (
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ) أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه ، ثم إن الظالم إن كان هو الرعية ، فالواجب على الأمير دفعهم ، وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها ، وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منها ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : ( وإن ) إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين ، فإن قيل : فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم ؟ نقول : قوله تعالى : ( وإن ) إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادرا ، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي ، وكذلك (
إن جاءكم فاسق بنبإ ) إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلا ، مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير ، وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولا من قول الصادق الصالح .
المسألة الثانية : قال تعالى : (
وإن طائفتان ) ولم يقل : وإن فرقتان تحقيقا للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل ؛ لأن الطائفة دون الفرقة ، ولهذا قال تعالى : (
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) [ التوبة : 122 ] .
المسألة الثالثة : قال تعالى : ( من المؤمنين ) ولم يقل منكم ، مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ) تنبيها على قبح ذلك وتبعيدا لهم عنهم ، كما يقول السيد لعبده : إن رأيت أحدا من غلماني يفعل كذا فامنعه ، فيصير بذلك مانعا للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن ، كأنه يقول : أنت حاشاك أن تفعل ذلك ، فإن فعل غيرك فامنعه ، كذلك ههنا قال : (
وإن طائفتان من المؤمنين ) ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد .
المسألة الرابعة : قال تعالى : (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ولم يقل : وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين ، مع أن كلمة " إن " اتصالها بالفعل أولى ، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال ، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة " إن " وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما ، فإن قيل : فلم لم يقل : يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم ، أو إن أحد من الفساق جاءكم ، ليكون الابتداء بما يمنعهم
[ ص: 110 ] من الإصغاء إلى كلامه ، وهو كونه فاسقا ؟ نقول : المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقا ، أو يزداد بسببه فسقه ، فالمجيء به سبب الفسق فقدمه . وأما الاقتتال فلا يقع سببا للإيمان أو الزيادة ، فقال : (
إن جاءكم فاسق ) أي سواء كان فاسقا أو لا ، أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقا به ، ولو قال : وإن أحد من الفساق جاءكم ، كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ .
المسألة الخامسة : قال تعالى : ( اقتتلوا ) ولم يقل : يقتتلوا ؛ لأن
صيغة الاستقبال تنبئ عن الدوام والاستمرار ، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا ، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبئ عن ذلك ، يقال : فلان يتهجد ويصوم .
المسألة السادسة : قال : ( اقتتلوا ) ولم يقل : اقتتلا ، وقال : (
فأصلحوا بينهما ) ولم يقل : بينهم ، ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة ، وكل أحد برأسه يكون فاعلا فعلا ، فقال : ( اقتتلوا ) وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة ، وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال : ( بينهما ) لكون الطائفتين حينئذ كنفسين .
ثم قال تعالى : (
فإن بغت إحداهما ) إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي ؛ لأنه غير متوقع ، فإن قيل : كيف يصح في هذا الموضع كلمة " إن " مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه ، وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه ، إذ كل واحد منهما لا يكون محسنا ، فقوله : ( أن ) تكون من قبيل قول القائل : إن طلعت الشمس ، نقول : فيه معنى لطيف ، وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع ، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد ، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة ، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد ، وهو خطأ ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلا كذا ، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر ، وعند ذلك يكون قد بغى فقال : (
فإن بغت إحداهما على الأخرى ) يعني بعد استبانة الأمر ، وحينئذ فقوله : (
فإن بغت ) في غاية الحسن ؛ لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع ، وفيه أيضا مباحث :
الأول : قال : (
فإن بغت ) ولم يقل : فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى : ( اقتتلوا ) ولم يقل : يقتتلوا .
الثاني : قال : (
حتى تفيء ) إشارة إلى أن
القتال ليس جزاء للباغي ، كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب ، بل القتال إلى حد الفيئة ، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم .
الثالث : هذا القتال لدفع الصائل ، فيندرج فيه ، وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما ، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حل القتال .
الرابع : هذا دليل على أن
المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمنا ؛ لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين .
الخامس : قوله تعالى : (
إلى أمر الله ) يحتمل وجوها :
أحدها : إلى طاعة الرسول وأولي الأمر ؛ لقوله تعالى : (
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ النساء : 59 ] .
وثانيها : إلى أمر الله ، أي إلى
الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى : (
وأصلحوا ذات بينكم ) [ الأنفال : 1 ] .
ثالثها : إلى أمر الله بالتقوى ، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان ، كما قال تعالى : (
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) [ فاطر : 6 ] .
السادس : لو قال قائل : قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع ، وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر ، فإذن تكون الفيئة متوقعة ، فكيف قال : (
فإن فاءت ) [ الحجرات : 9 ] ؟ نقول : قول القائل لعبده : إن مت فأنت حر ، مع أن الموت لا بد من وقوعه ، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلا للعتق بأن يكون باقيا في ملكه حيا يعيش بعد وفاته غير معلوم ، فكذلك ههنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم
[ ص: 111 ] فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى : (
فإن فاءت ) بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا ، وفيه معنى لطيف ، وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبرا .
السابع : قال ههنا : (
فأصلحوا بينهما بالعدل ) ولم يذكر العدل في قوله : (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا ) نقول : لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب ، والإصلاح ههنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم ، فقال : (
بالعدل ) فكأنه قال : واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما ؛ لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى .
الثامن : إذا قال : (
فأصلحوا بينهما بالعدل ) فأية فائدة في قوله : (
وأقسطوا ) ؟ نقول : قوله : (
فأصلحوا بينهما بالعدل ) كان فيه تخصيص بحال دون حال ، فعمم الأمر بقوله : (
وأقسطوا ) أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله ، والإقساط إزالة القسط وهو الجور ، والقاسط هو الجائر ، والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب ، وهو أيضا غير مرضي ولا معتد به ، فكذلك القسط .
ثم قال تعالى : (
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) تتميما للإرشاد ؛ وذلك لأنه لما قال : (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم ، فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح ، وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال ، وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه ، فلا يجب الإصلاح ، فقال : (
بين أخويكم ) وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال ، بل لو
كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح .