(
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم )
ثم قال تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) .
لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح ، ومنه يظهر العدو المكاشح ، والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيبا فيلمزه به ، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحا ، وفي نفس الأمر لا يكون كذلك ؛ لجواز أن يكون فاعله ساهيا أو يكون الرائي مخطئا ، وقوله : ( كثيرا ) إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
ظنوا بالمؤمن خيرا " وبالجملة
كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين ، فالظن فيه غير مجتنب ، مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك ، فقوله : (
اجتنبوا كثيرا )
وقوله تعالى : ( إن بعض الظن إثم ) إشارة إلى الأخذ بالأحوط ، كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق ، لكنك لا تسلكها لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة ، كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ .
ثم قال تعالى : (
ولا تجسسوا ) إتماما لما سبق ؛ لأنه تعالى لما قال : (
اجتنبوا كثيرا من الظن ) فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل : أنا أكشف فلانا ، يعني أعلمه يقينا ، وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن ، فقال تعالى : ولا تبتغوا الظن ، ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس .
ثم قال تعالى : (
ولا يغتب بعضكم بعضا ) إشارة إلى وجوب
حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان :
أحدها : في قوله تعالى : ( بعضكم بعضا ) فإنه للعموم في الحقيقة كقوله : (
ولا تلمزوا أنفسكم ) وأما من اغتاب فالمغتاب أولا يعلم عيبه ، فلا يحمل فعله على أن يغتابه ، فلم يقل : ولا تغتابوا أنفسكم ؛ لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه ، والعيب حامل على العيب .
ثانيها : لو قال قائل : هذا المعنى كان حاصلا بقوله تعالى : لا تغتابوا مع الاقتصار عليه ؟ نقول : لا ، وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال : (
بعضكم بعضا ) وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه ، وكيف لا
والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة .
ثالثها : قوله تعالى : (
أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) دليل على أن
الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر ، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ ، وقال من قبل : (
إنما المؤمنون إخوة ) فلا أخوة إلا بين المؤمنين ، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ، ففي هذه الآية نهي عن اغتياب المؤمن دون الكافر .
رابعها : ما الحكمة في هذا التشبيه ؟ نقول : هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه ، وهذا من باب القياس الظاهر ، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه ، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى ؛ لأن ذلك آلم ، وقوله : (
لحم أخيه ) آكد في المنع ؛ لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو ، فقال : أصدق الأصدقاء من ولدته أمك ، فأكل لحمه أقبح ما يكون ، وقوله تعالى : ( ميتا ) إشارة إلى دفع
[ ص: 116 ] وهم ، وهو أن يقال : القول في الوجه يؤلم فيحرم ، وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم ، فقال : أكل لحم الأخ وهو ميت أيضا لا يؤلم ، ومع هذا هو في غاية القبح ؛ لما أنه لو اطلع عليه لتألم ، كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه ، وفيه معنى : وهو أن
الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا ، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة ،
والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت ، فلا يأكل لحم الآدمي ، فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب ، وقوله تعالى : ( ميتا ) حال عن اللحم أو عن الأخ ، فإن قيل : اللحم لا يكون ميتا ، قلنا : بلى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011713ما أبين من حي فهو ميت " فسمى العلقة ميتا ، فإن قيل : إذا جعلناه حالا عن الأخ ، لا يكون هو الفاعل ولا المفعول ، فلا يجوز جعله حالا ، كما يقول القائل : مررت بأخي زيد قائما ، ويريد كون زيد قائما ، قلنا : يجوز أن يقال : من أكل لحمه فقد أكل ، فصار الأخ مأكولا مفعولا ، بخلاف المرور بأخي زيد ، فيجوز أن تقول : ضربت وجهه آثما ، أي وهو آثم ، أي صاحب الوجه ، كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته ، ولا يجوز أن تقول : مزقت ثوبه آثما ، فتجعل الآثم حالا من غيرك .
وقوله تعالى : (
فكرهتموه ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى : العائد إليه الضمير يحتمل وجوها : الأول : وهو الظاهر أن يكون هو الأكل ؛ لأن قوله تعالى : (
أيحب أحدكم أن يأكل ) معناه أيحب أحدكم الأكل ؛ لأن أن مع الفعل تكون للمصدر ، يعني فكرهتم الأكل . الثاني : أن يكون هو اللحم ، أي فكرهتم اللحم . الثالث : أن يكون هو الميت في قوله : ( ميتا ) وتقديره : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا متغيرا فكرهتموه ، فكأنه صفة لقوله : ( ميتا ) ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير ، يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادرا ، ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلا ، فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة .
المسألة الثانية :
الفاء في قوله تعالى : ( فكرهتموه ) تقتضي وجود تعلق ، فما ذلك ؟ نقول : فيه وجوه :
أحدها : أن يكون ذلك تقدير جواب كلام ، كأنه تعالى لما قال : (
أيحب ) قيل في جوابه ذلك .
وثانيها : أن يكون الاستفهام في قوله : (
أيحب ) للإنكار ، كأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذا ، ولا يحتاج إلى إضمار .
وثالثها : أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب ، وترتبه عليه كما تقول : جاء فلان ماشيا فتعب ؛ لأن المشي يورث التعب ، فكذا قوله : ( ميتا ) لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت ، فكيف يقربه بحيث يأكل منه ، ففيه إذا كراهة شديدة ، فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة .
ثم قال تعالى : (
واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي ، أي اجتنبوا واتقوا ، وفي الآية لطائف : منها أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أمورا ثلاثة مرتبة ، بيانها هو أنه تعالى قال : (
اجتنبوا كثيرا ) أي
لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم بناء على الظن ، ثم إذا سئلتم على المظنونات ، فلا تقولوا : نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها ، ثم إن علمتم منها شيئا من غير تجسس ، فلا تقولوه ولا تفشوه عنهم ولا تعيبوا ، ففي الأول نهي عما لم يعلم ، ثم نهي عن طلب ذلك العلم ، ثم نهي عن ذكر ما علم ، ومنها أن الله تعالى لم يقل : اجتنبوا أن تقولوا أمرا على خلاف ما تعلمونه ، ولا قال : اجتنبوا الشك ، بل أول ما نهى عنه هو القول بالظن ؛ وذلك لأن القول على خلاف العلم كذب وافتراء ، والقول
[ ص: 117 ] بالشك ، والرجم بالغيب سفه وهزء ، وهما في غاية القبح ، فلم ينه عنه اكتفاء بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ) لأن وصفهم بالإيمان يمنعهم من الافتراء والارتياب الذي هو دأب الكافر ، وإنما منعهم عما يكثر وجوده في المسلمين ؛ ولذلك قال في الآية : (
لا يسخر ) ومنها أنه ختم الآيتين بذكر التوبة ، فقال في الأولى : (
ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) وقال في الأخرى : (
إن الله تواب ) لكن في الآية الأولى لما كان الابتداء بالنهي في قوله : (
لا يسخر قوم من قوم ) ذكر النفي الذي هو قريب من النهي ، وفي الآية الثانية لما كان الابتداء بالأمر في قوله : (
اجتنبوا ) ذكر الارتياب الذي هو قريب من الأمر .