(
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )
ثم قال تعالى : (
ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) .
تبيينا لما تقدم وتقريرا له ، وذلك لأن
السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز ؛ لما بينا أن قوله : (
ولا يغتب بعضكم بعضا ) وقوله : (
ولا تلمزوا أنفسكم ) منع من عيب المؤمن وغيبته ، وإن لم يكن لذلك السبب فلا يجوز ؛ لأن الناس بعمومهم كفارا كانوا أو مؤمنين يشتركون فيما يفتخر به المفتخر غير الإيمان والكفر ، والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنيا ، والمؤمن فقيرا وبالعكس ، وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيبا ، والمؤمن قد يكون عبدا أسود وبالعكس ، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون متقاربون ، وشيء من ذلك لا يؤثر مع عدم التقوى ، فإن كل من يتدين بدين يعرف أن من يوافقه في دينه أشرف ممن يخالفه فيه ، وإن كان أرفع نسبا أو أكثر نشبا ، فكيف من له الدين الحق وهو فيه راسخ ، وكيف يرجح عليه من دونه فيه بسبب غيره ، وقوله تعالى : (
ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) فيه وجهان :
أحدهما : من
آدم وحواء . ثانيهما : كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم ، فإن قلنا : إن المراد هو الأول ، فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة ، وإن قلنا : إن المراد هو الثاني ، فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد ، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم ، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين ، فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب ، لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين ؛ لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام بل أضل ، والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه ، والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس ، إذ كلهم من ذكر وأنثى ، فلا يبقى لذلك عند هذا اعتبار ، وفيه مباحث :
البحث الأول : فإن قيل : هذا مبني على عدم اعتبار النسب ، وليس كذلك فإن للنسب اعتبارا عرفا وشرعا ، حتى لا يجوز
تزويج الشريفة بالنبطي ، فنقول : إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبرا ، وذلك في الحس والشرع والعرف ، أما الحس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ، ولجناح الذباب دوي ولا يسمع عندما يكون رعد قوي ، وأما في العرف فلأن من جاء مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا إليه
[ ص: 118 ] التفات ، إذا علمت هذا فيهما ففي الشرع كذلك ، إذا جاء الشرف الديني الإلهي ، لا يبقى لأمر هناك اعتبار ، لا لنسب ولا لنشب ، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبا ، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبا ، لا يقاس أحدهما بالآخر ، وكذلك ما هو مع غيره ؛ ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما صالحا ، ولا يصلح لشيء منها فاسق ، وإن كان قرشي النسب ، وقاروني النشب ، ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين ، وأحدهما نسيب ترجح بالنسب عند الناس لا عند الله ؛ لأن الله تعالى يقول : (
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [ النجم : 39 ] وشرف النسب ليس مكتسبا ولا يحصل بسعي .
البحث الثاني :
ما الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ، ولم يذكر المال ؟ نقول : الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها ؛ لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به ، والحسن والسن ، وغير ذلك غير ثابت دائم ، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ، فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بالطريق الأولى .
البحث الثالث : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز
الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى : (
إنا خلقناكم ) فائدة ؟ نقول : نعم ؛ وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره ، فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه ، ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله ، والذي بعده كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء ، والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد ، أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد ، كما يقال في إناءين : هذا من النحاس وهذا من الفضة ، ويقال : هذا عمل فلان ، وهذا عمل فلان ، فقال تعالى : لا ترجيح فيما خلقتم منه ؛ لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بالنظر إلى جاعلين ؛ لأنكم كلكم خلقكم الله ، فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم ، وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى .
ثم قال تعالى : (
وجعلناكم شعوبا وقبائل ) وفيه وجهان :
أحدهما : (
وجعلناكم شعوبا ) متفرقة لا يدرى من يجمعكم كالعجم ، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب
وبني إسرائيل .
وثانيهما : (
وجعلناكم شعوبا ) داخلين في قبائل ، فإن القبيلة تحتها الشعوب ، وتحت الشعوب البطون ، وتحت البطون الأفخاذ ، وتحت الأفخاذ الفصائل ، وتحت الفصائل الأقارب ، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار ؛ لأن الأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة ، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة ، ثم بين فائدة ذلك وهي التعارف ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر .
وثانيهما : أن فائدته التعارف لا التناكر ، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف ، وفيه معان لطيفة . الأولى : قال تعالى : (
إنا خلقناكم ) ، وقال : ( وجعلناكم ) لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل شعوبا فإن الأول هو الخلق والإيجاد ، ثم الاتصاف بما اتصفوا به ، لكن الجعل شعوبا للتعارف ، والخلق للعبادة ، كما قال تعالى : (
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع ، فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوبا يتحقق بعدما يتحقق الخلق ، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا . الثانية : قوله تعالى : ( خلقناكم ) ( وجعلناكم ) إشارة إلى عدم جواز
الافتخار ؛ لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك ، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه ؟ فإن قيل : الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى : (
إنا هديناه السبيل ) [ الإنسان : 3 ] (
نهدي به من نشاء ) [ الشورى : 52 ] فنقول : أثبت الله لنا فيه كسبا
[ ص: 119 ] مبنيا على فعل ، كما قال الله تعالى : (
فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) [ المزمل : 19 ] .
ثم قال تعالى : (
وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) [ الإنسان : 30 ] وأما في النسب فلا . الثالثة : قوله تعالى : (
لتعارفوا ) إشارة إلى قياس خفي ، وبيانه هو أنه تعالى قال : إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا ، وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم ، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك . الرابعة : فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب ، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص ، فإن كان ذلك الشخص شريفا صح الافتخار في ظنكم ، وإن لم يكن شريفا لم يصح ، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة ، فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء ، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر ، فكيف يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد ؟! اللهم إلا أن يحوز شرف الانتساب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أحدا لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك ، ولكن في هذا النسب أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب ، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب ، فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013723نحن معاشر الأنبياء لا نورث " ، وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013246العلماء ورثة الأنبياء " أي لا نورث بالانتساب ، وإنما نورث بالاكتساب . سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد
خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى
علي عليه السلام ، غير أنه كان فاسقا ، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ، ومال الناس إلى التبرك به ، فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد ، فاتبعه خلق ، فلقيه الشريف سكران ، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه ، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ ، وقال له : يا أسود الحوافر والشوافر ، يا كافر ابن كافر ، أنا ابن رسول الله ، أذل وتجل ! وأذم وتكرم ! وأهان وتعان ! فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا هذا محتمل منه لجده ، وضربه معدود لحده ، ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك ، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت ، وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي ، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي ، فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي ، فعملوا معك ما يعمل مع أبي ، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك !